منصة الصباح

لغة‭ ‬الصمت‭ ‬وغضب‭ ‬طرابلس

كاميرا‭ ‬خلفية

بقلم /أحمد‭ ‬الرحال

لم‭ ‬يعد‭ ‬لأي‭ ‬حديث‭ ‬آخر‭ ‬معنى،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬معاجم‭ ‬أو‭ ‬أشباه‭ ‬أو‭ ‬نظائر،‭ ‬ولن‭ ‬أتحدث‭ ‬بما‭ ‬سمعته‭ ‬من‭ ‬أناس‭ ‬أو‭ ‬بما‭ ‬رأيته‭ ‬على‭ ‬شفاههم‭ ‬من‭ ‬حركات‭ ‬ناطقة‭ ‬أو‭ ‬معبرة‭ ‬بأساليب‭ ‬غير‭ ‬أساليب‭ ‬الكلام‭.‬
إنه‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يجتاحني‭ ‬وأحسه‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬والهتافات‭ ‬والغضب‭.‬
فالكلام‭ ‬كلام،‭ ‬والهتافات‭ ‬كلام،‭ ‬والغضب‭ ‬أيضا‭ ‬كان‭ ‬كلاما‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬هناك‭. ‬لكن‭ ‬الصمت‭ ‬ولغة‭ ‬الصمت‭ ‬كانا‭ ‬أقوى‭ ‬وأبلغ‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬وأعلى‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ضجيجا‭.‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬شدني‭ ‬منظر‭ ‬آخر‭ ‬له‭ ‬درجاته‭ ‬وحواشيه‭ ‬وألوانه‭ ‬وتعابيره‭.‬إنه‭ ‬منظر‭ ‬طرابلس‭ ‬الذي‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬نخيلها‭ ‬وأشجارها‭ ‬وحيطانها‭ ‬وسمائها‭ ‬وأرضها‭ ‬وطيورها‭ ‬وغيومها‭ ‬وأمواجها‭ ‬ونسيمها‭ ‬وأمطارها‭.‬
أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬فرض‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬غضب‭ ‬الجموع‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬رأيت‭ ‬كما‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬حزنا‭ ‬ووجعا‭ ‬بطلان‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬أعالي‭ ‬النخيل‭ ‬والشجر،‭ ‬وبين‭ ‬نسمات‭ ‬الهواء‭ ‬وقطرات‭ ‬المطر‭ ‬وحركات‭ ‬الطيور‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬وبطء‭ ‬الغيوم‭. ‬
بين‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬أولى‭ ‬مراحل‭ ‬تأملي‭ ‬حزن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬طرابلس‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬يعتدي‭ ‬عليها‭ ‬مجرمون‭ ‬لا‭ ‬يهمهم‭ ‬قتل‭ ‬الانسان‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬شابا‭ ‬يافعا‭ ‬يتطلع‭ ‬إلى‭ ‬مستقبله‭ ‬في‭ ‬بلاده‭ ‬أو‭ ‬إزهاق‭ ‬روح‭ ‬سيدة‭ ‬مسنة‭ ‬تتمنى‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬أيامها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬أو‭ ‬تدمير‭ ‬بيت‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬أطفال‭ ‬أبرياء‭.‬
لكن‭ ‬منظرا‭ ‬فرض‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أتأمله،‭ ‬إنه‭ ‬حمام‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء‭ ‬الذي‭ ‬حلق‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الجموع‭ ‬الغاضبة‭ ‬وهي‭ ‬تستعد‭ ‬لتصلي‭ ‬الجنازة‭ ‬على‭ ‬أرواح‭ ‬شباب‭ ‬صغار‭ ‬طالتهم‭ ‬يد‭ ‬الغدر‭.‬
‭ ‬إنه‭ ‬الحمام‭ ‬يحلق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السماء‭ ‬ويتجمع‭ ‬بعضه‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الميدان‭ ‬أمام‭ ‬من‭ ‬يستعدون‭ ‬لصلاة‭ ‬الجنازة‭.‬حينها‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬أعالي‭ ‬الأشجار‭ ‬والنخيل،‭ ‬فماذا‭ ‬رأيتُ؟‭ ‬رأيت‭ ‬جريد‭ ‬النخيل‭ ‬يتحرك‭ ‬وكأنه‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬غضبه‭ ‬وهو‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬نسيم‭ ‬فيه‭ ‬حرارة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬برودة‭ ‬الجو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشتاء‭.‬
سألت‭ ‬نفسي‭: ‬هل‭ ‬طرابلس‭ ‬حزينة‭ ‬أم‭ ‬غاضبة؟‭ ‬لكنني‭ ‬استدركت‭: ‬ولم‭ ‬لا‭ ‬يجتمع‭ ‬الحزن‭ ‬والغضب‭ ‬كشعورين‭ ‬حق‭ ‬لهما‭ ‬أن‭ ‬يجتمعا؟وكأن‭ ‬طرابلس‭ ‬كلها،‭ ‬بجمالها‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الإهمال‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه‭.‬وكأن‭ ‬طرابلس‭ ‬بقضها‭ ‬وقضيضها‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬خلت‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وكأنها‭ ‬بذلك‭ ‬كله‭ ‬تنادي‭ ‬على‭ ‬المعتدي‭ ‬الغاشم‭ ‬قائلة‭: ‬لن‭ ‬تدخلني‭ ‬مهما‭ ‬فعلت‭ ‬ومهما‭ ‬قتلت‭ ‬ومهما‭ ‬دمرت‭ ‬ومهما‭ ‬تآمرت‭ ‬ومهما‭ ‬تلقيت‭ ‬من‭ ‬دعم‭ ‬ظالم‭.‬واسأل‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬تدعي‭ ‬معرفته‭ ‬وأنت‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬في‭ ‬صفحاته‭ ‬سطرا‭ ‬واحدا‭.‬الهيبة‭ ‬التي‭ ‬زينت‭ ‬طرابلس،‭ ‬والشموخ‭ ‬الذي‭ ‬ظهرت‭ ‬به‭ ‬طرابلس‭ ‬وهي‭ ‬تودع‭ ‬شبابها‭ ‬المغدور‭ ‬ليست‭ ‬كهيبة‭ ‬من‭ ‬ادعى‭ ‬هيبة‭.‬
وليست‭ ‬كشموخ‭ ‬من‭ ‬يتصنع‭ ‬شموخا،‭ ‬إنه‭ ‬شموخ‭ ‬طرابلس‭ ‬الكبيرة‭ ‬القديمة‭ ‬الجديدة‭ ‬والمتجددة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الحقد‭ ‬القادم‭ ‬إليها‭ ‬وسيتحطم‭ ‬على‭ ‬أسوارها‭ ‬وسيحرق‭ ‬نفسه‭ ‬بنفسه‭. ‬فالحقد‭ ‬لا‭ ‬يحرق‭ ‬الجمال،‭ ‬بل‭ ‬يحترق‭ ‬حين‭ ‬يعجزه‭ ‬الجمال‭ ‬عن‭ ‬أذيته‭.‬

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …