جمعة بوكليب
زايد…ناقص
في الفصل الثاني، من رواية الكاتب هشام مطر الجديدة، المعنونة” أصدقائي،” والصادرة حديثاً باللغة الانجليزية، عن دار نشر بنجوين، يصف الراوي لحظة وصوله إلى شقته بلندن، في منطقة “شيبرد بوش جرين” مرفوقاً بصديقه القادم من مدينة بنغازي، في طريقه إلى باريس، ومنها مهاجراً إلى أمريكا، فيقول إنه كان دوماً سريعاً في اخراج مفتاح شقته، وحتى خلال السنوات التي عاشها في نفس المكان، لم ينس مطلقا مفتاحه في داخل الشقة بعد مغادرتها، ولم ينس أو يفقد محفظته. وأذكر أنني حين انتهيت من قراءة تلك الفقرة، توقفت عن القراءة، مندهشاً ومستغرباً في آن معاً. وسمعتني بوضوح أقول مُعلقاً:” مفلح أولاد الناس.”
الحكاية معروفة وواضحة. ولا تحتاج إلى زيارة فقيه “ايده طويلة أو قصيرة” للشرح والتفسير. وأنا على ثقة من أنني لست الوحيد، الذي ينسى مفاتيحه وينسى أين وضع أشياءه. إذ من منّا لم يفقد يوماً مفتاح بيته، أو نسى في أي جهة ركن سيارته؟ في احدى المرّات، كدتُ، لولا الحياء، بكيت من شدة احباطي وغضبي على نسياني، عقب اكتشافي أني رجعت سالماً إلى بيتي في ساعة متأخرة من الليل، لكني نسيت هاتفي في بيت صديق كنت أسهرعنده، يقيم في منطقة أخرى بعيدة.
يقول البعض ممن يحبون وضع الأمور في نصابها:” هوّن عليك|، حتى أصابع اليدين ليسوا سواسية.”
وبالطبع، الناس مثل أصابع اليدين ليسوا سواسية. لكن بعض الناس “سوبرمانات،” اللهم لا حسد. فهم لا ينسون أين وضعوا مفاتيحهم، ولا يفقدون مواضع أشياءهم. أحياناً، حين تسوء الأمور ويستفحل داء نسياني، أقول لنفسي مُصبّراً:” جاتك في الريش.” نسيان او تضييع مفتاح أو محفظة نقود لا يعني شيئاً. هناك، في بقاع عدة في العالم، أناس آخرون يضيّعون أوطانهم، أويفقدون ألسنتهم وتواريخهم. وأحياناً أخرى، حين يصل احباطي من النسيان مداه، أعلق المسألة على مشجب الله غالب، وأغلق ورائي كل الأبواب.
أخيراً، تبيّن أن مسألة نسيان أو تضييع المفاتيح لا علاقة لها بداء الخَرَف-Dementia، عافانا الله جميعاً. فقد قرأتُ خلال الأيام القليلة الماضية خبراً، في صحيفة بريطانية، يؤكد أن مسألة نسيان مفاتيح أوفقدان مكان هاتف أمر عادي، وتفسيرها أن العقل يغفل عمداً عن الاهتمام بتذكر مكان الشيء المفقود، لانشغاله بايداع معلومات أخرى. بمعنى أن العقل يعمل وفقا لمبدأ مثل شعبي يقول :” بو بالين كذاب.” وأنّه، أي العقل، ليس مثل كلب بمقدوره النباح وهز الذيل في وقت واحد.
الخبرُ يقول إن أكاديميين أمريكيين متخصصين في العلوم النفسية أصدرا مؤخراً كتابا بعنوان:” سيكولوجية الذاكرة.” يشرحان فيه الأسباب التي ينسى فيها الناس مفاتيحهم أو غيرها من أشيائهم. وهذا يعني شطب احتمال أن يكون الفاعل كائنات من أهل الخفاء، كما قد يعتقد البعض. وفي تفسيرهما يقول الأكاديميان إن درجة من النسيان تعدّ طبيعية لكي تسمح للعقل بتذكر معلومات عامة أخرى. وأن الذاكرة لا تعمل مثل آلة تسجيل، ولكن مثل صفحة في موقع ويكي-Wiki، لأن التفاصيل يمكن تحريرها، أي تعديلها أو تصحيحها. ويضيفان أن هناك عدة طرق لتقوية الذاكرة يومياً. وعلى سبيل المثال، ممارسة الاسترجاع – ٌRetrieval Practice” ويقترحان في الخصوص استراتيجية استحضار حقائق من الذاكرة.
وما هو مهم، ليس التركيز على شدة الاحباط مما يصيبنا من النسيان، بل باكتشاف حقيقة أن نسياننا أو فقداننا لأشيائنا لا يجب أن يكون باعثاً على القلق، كونه أمراً طبيعياً، وأن ذاكراتنا، وهذا الأهمّ، ليست آلات تسجيل.