فتحية الجديدي
يعتبر شهر رمضان حالة طقسية مميزة عند الليبيين، وهذه الحالة تعني لهم الكثير لكونها ليست فقط أياماً معدودة للصيام والعبادة فقط، ولازلت ذاكرتنا تزخر بكل الأحداث والأعمال والبرامج التي شكلت جميعها صورة جميلة في أذهاننا بكل تفاصيلها، حتى أصبحت ضمن النسيج الاجتماعي والوجداني للمجتمع ككل.
هناك أعمال فنية تلفزيونية وإذاعية تجاوز عمرها الثلاثين والأربعين عاماً، والتي كانت تعرض بالمرئية خلال شهر رمضان منذ عقود الستينيات والسبيعنيات والثمنينيات التي أرتبطنا بها كجيل، فمثلاً حين كنا نسمع أغنية (مبروك عليكم رمضان) للفنان الراحل عبد الرزاق بن نعسان من خلال بثها في تلك الفترة، نتيقن دخول الشهر الكريم، حالها كحال الأغاني الأخرى التي تبث في كل موسم رمضاني والتي تعتبر من الصنف الفني الخفيف ذات الكلمات البسيطة والهادفة والألحان الموسيقية الرائعة، حيث ارتبط وجدان الناس بالوجبة الفنية الخفيفة ذات المضمون الهادف، والرسالة السامية، وهذا ما حرص عليه العديد من الفنانين من ممثلين ومخرجين في تلك الفترة. كنا نتابع بكل شغف الأعمال الدرامية الموسمية الرمضانية مثل برامج (فكر واكسب) و(سماعي شهدان) وغيرهما الذي كان يعدها الفنان الراحل أحمد الحريري ويجسدها الفنانان يوسف الغرياني (قزقيزة) وأسماعيل العجيلي (سمعة)، واللوحة الفنية خالتي (حويوة..) التي جسدتها الفنانة لطفية أبراهيم، والعمل الإذاعي الشهير (البسباسي) للأستاذ الطاهر جديع وزميلته المذيعة الفنانة الراحلة فاطمة عمر (غرسة)، وكذلك أعمال الراحلين الفنان محمد الكور (بنور) والفنان عبد الرزاق بن نعسان (الحاج) بمشاركة عدة فنانين آخرين، وغيرها من الأعمال التي بالفعل شكّلت نوعاً من التأثير على التفكير بدخولها بيوتنا من خلال الشاشة الصغيرة.
حقيقةً لقد حوّلت هيئة الإذاعات في تلك المرحلة خيال الفنانين لواقع ذهني لامس وجدان الناس لدرجة أن مسلسلات رمضان والحكايات رمضانية بقيت في أذهاننا إلى غاية هذا الوقت، ولم تخاصم وجداننا بإيقاعها البسيط. وعلى رغم من بساطته وضعف ميزانيته المالية فقد كان الإنتاج التلفزيوني ذكياً أيضا في ذلك الوقت، حيث استطاع أن يشدنا من خلال أبطال الأعمال الخفيفة التي ارتبطنا بهم وهم أنفسهم من ننتظرهم كل موسم.
بعد ذاك الجيل قدم لنا الثلاثي من الفنانين (سعد الجازوي، فتحي كحلول، لطفية ابراهيم) منوعات كوميدية على سفرة الأفطار نتسارع على مشاهدتها رغم قصر المساحة المخصصة لها عقب برنامج (حكايات البسباسي) للمخرج طاهر جديع ، ومثل إضافة مهمة للتنافس والمقارنة بالبرامج الفكاهية الخفيفة الأخرى التي كان يتربع عليها موسمياً (قزقيزة وسمعة).
إن غياب مثل هذه الوجبات الفنية المهمة حالياً يرجع إلى عدة أسباب مجتمعية سواء كانت متعلقة بالتفكير والإبداع أو غياب المواهب المحلية التي يمكن أن تحل محل تلك الأجيال، وبات عصر السرعة هو المسيطر الوحيد في تقديم مثل هذه الوجبات على (التلفزيون) حتى وصل الأمر إلى هجران الجهاز المرئي خلال حصة الأفطار والإتجاه للإنتاج العربي والأروبي! وفي تصوري لابد للمسئولين أن يدرسوا هذه الأسباب لمحاولة وضع خطط لتجاوزها وإعادة الجمهور الرمضاني للبرامج التلفزيونية.
إن الإيقاع المجتمعي أصبح سريعاً في كل الفنون، وذلك نتيجة لتطور الفكر الإنساني والسياسات الإعلامية والميزانيات المالية المخصصة لإنتاج البرامج، ومهما كان الجزء العلمي والتقني فيها متطوراً، فلا يمكن أن يقدم عملاً فنياً راقياً دون الأعتماد على درجة فكر ووعي المجتمع، أما الإعتماد على التقنيات المتطورة فقط دون توظيف الموهبة، وتسكين الشخصية بالعمل الفني، وتقديمها بشكل جميل من قبل المخرج، تصبح المسألة بلا معنى ولا رسالة معينة سواء كانت هادفة للتوعية أو الترفيه والتسلية.
وبالتالي لابد من الوقوف لمعالجة سياسات برامج هذا الصندوق التلفزيوني المرئي، بأن يكون هناك تطوير في إنتاج الأعمال الفنية الرمضانية الكوميدية التي يحتاجها المشاهد بهذه الفترة، والتطلع لنقلة فنية وفق المستجدات التي طرأت على عقلية وحركية مجتمعنا ومتطلباته النفسية والجمالية، والعمل على إنتاج وتقديم الأعمال الفنية بما يتماشى مع ذائفة المتلقي، وتحتاجه لتجاوز أزماتها – وما أكثرها- والعمل على أن تكون الكتابة المتخصصة مقنعة موضوعياً للفكر والعقلية المتطورة، وفي نفس الوقت لابد أن ترتقي لذوق المشاهد المتعطش جداً لتباشير الفرح والبهجة وتجاوز كل المعاناة التي تمر به.