مراجعة: عبدالسلام الغرياني
يُعد كتاب “ليبيا منذ القذافي: الفوضى وطلب السلام” للدبلوماسية الأمريكية والوسيطة الأممية السابقة ستيفاني تي ويليامز، من أكثر الشواهد تحليلا لحالة ليبيا بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي سنة 2011. يعرض الكتاب رؤية جامعة بين مشاهد الكاتبة العينية للأحداث، وتأملاتها في تعقيدات النزاع الليبي، ليكون مرجعا يُعتمد عليه في فهم عوائق بناء دولة مستقرة بعد ثورة شعبية تحولت إلى فتنة داخلية متشعبة الجوانب.
السياق التاريخي والثورة الليبية:
تستهل ويليامز كتابها بذكر موجز لعهد القذافي، مشيرة إلى أن سياساته القمعية واحتكار السلطة أديا إلى تهشيم مؤسسات الدولة، فخلف سقوطه فراغا سياسيا واجتماعيا. ثم تنتقل إلى تحليل تدخل حلف الناتو سنة 2011، الذي أيّد الثوار الليبيين، لكنه — حسب روايتها — خلا من خطة واضحة لمرحلة ما بعد القذافي، فانفتح الباب أمام صراعات محلية وخارجية. وتظهر الكاتبة هنا مفارقة التدخل الدولي: فبينما أنهى نظاما جبارا، إلا أنه ترك ليبيا بلا عمد سياسي أو أمني، فاستولت عليها جماعات المسلحين والقوى الأجنبية.
التفكك السياسي ودور جماعات المسلحين:
يستفيض الكتاب في شرح كيف صارت ليبيا ميدانا لصراعات متداخلة بين فئات محلية تستند إلى دعم إقليمي وعالمي. فمثلا يفسر الكتاب كيف استغل الجنرال خليفة حفتر، الذي يسانده الروس والإمارات ومصر، الانشقاقات السياسية ليشن هجوما على طرابلس سنة 2019، زاعما “تحريرها من الإرهاب”، بينما كان المقصود الحقيقي — حسب ويليامز — توثيق سلطته كـ”رج قوي” في ليبيا. وتبين الكاتبة كيف تحولت جماعات المسلحين من فئات ثورية إلى كيانات تستغل موارد الدولة، كموانئ النفط، مستفيدة من دعم دول مثل تركيا وقطر من جهة، والإمارات ومصر من جهة أخرى.
السياسة الدولية وإخفاقاتها:
تستعرض ويليامز مساعي المجتمع الدولي لإحقاق السلام، مثل مؤتمر برلين 2020 الذي نظمته الأمم المتحدة، واتفاق الوقف العسكري في أكتوبر 2020، الذي أسهمت في صياغته. لكنها تنتقد بشدة الاشتغال بحلول سطحية كتشكيل حكومات وحدة وطنية (كحكومة عبد الحميد الدبيبة) دون معالجة جذرية لأسباب النزاع، كتوزيع الثروة والسلطة. كما تشير إلى إهمال المصالحة الشعبية، حيث انحصرت المفاوضات في النخب السياسية والعسكرية، متجاهلة أهل المدينة والقبائل التي يمكن أن تنهض بدور في بناء الثقة. وتُذكّر الكاتبة كيف صارت ليبيا ميدانا لصراع خفي بين الروس وتركيا من جهة، والغرب ودول الخليج من جهة أخرى، حيث تستخدم هذه الدول الجماعات المسلحة وسيلة لتحقيق مصالحها الجغرافية.
أثر التضليل الإعلامي المدمر:
يفرد الكتاب بابا كاملا لتحليل دور منصات التواصل الاجتماعي في إشعال الفتنة. توضح ويليامز كيف استخدمت الفئات منصات مثل فيس بوك وتويتر لنشر أخبار كاذبة وخطاب متطرف، فازداد الانشقاق في المجتمع الليبي. مثلا جعلت صورة حفتر “بطلا وطنيا” في مناطق الشرق، بينما نعته خصومه في الغرب بـ”مجرم حرب”. أدت الحملات الإعلامية المدعومة من الخارج إلى تشويه سمعة الخصوم السياسيين وإفشال مساعي الوساطة.
الانهيار الاقتصادي: النفط والفساد:
على الرغم من ارتكاز الكتاب على الجوانب السياسية، إلا أنه يلقي الضوء أيضا على الكارثة الاقتصادية في ليبيا: تشير ويليامز إلى أن عوائد النفط — التي تمثل 90% من دخل ليبيا — تصرف لتمويل جماعات المسلحين دون إعادة إعمار. كما تناقش انهيار العملة، حيث انخفضت قيمة الدينار الليبي 600% بين 2014 و2020، فغاص ملايين الليبيين في الفقر. وتكشف عن كيفية استغلال مسؤولين في البنك المركزي والهياكل الحكومية مناصبهم لتحويل الأموال إلى خارج البلاد.
نقد ذاتي: إخفاقات الأمم المتحدة:
تقدم ويليامز — بصراحة لافتة — نقدا لدور الأمم المتحدة، معترفة بأن المنظمة الدولية أعادت أخطاء الماضي، مثل اعتمادها على “حلول جاهزة” كإجراء انتخابات سريعة دون ضمانات أمنية أو قانونية، فتؤدي إلى مزيد من العنف (كما حدث سنة 2021). كما تشير إلى تجاهل الجانب الإنساني، حيث اقتصرت المفاوضات على الجوانب السياسية، متغاضية عن مآسي المدنيين، كالنازحين وضحايا انتهاكات الحقوق.
مقارنة مع كتابات أخرى:
تقارن ويليامز — بطريقة غير مباشرة — عملها بكتب أخرى عن ليبيا، مثل كتاب أولف لاسينغ “فهم ليبيا منذ القذافي”: يركز لاسينغ على العوامل الداخلية، كالنزاعات القبلية وإرث القذافي، بينما تبرز ويليامز العوامل الخارجية كمحور أساسي. كما تختلف عن تقارير الأمم المتحدة الرسمية، مثل تقارير فريدريك وييري، بجرأتها في كشف الخلافات داخل المنظمة الدولية وانتقاد سياسات الدول العظمى.
العبر، وصايا المؤلفة:
تختتم ويليامز كتابها بعدة وصايا لإنقاذ ليبيا، منها كف التدخل الخارجي بوضع عقوبات على الدول التي تزود جماعات المسلحين بالسلاح، وإشراك أهل البلد عوضا عن اقتصار الحل على النخب، يجب دعم مبادرات المصالحة المحلية التي تقودها القبائل. كما تدعو إلى إصلاح الاقتصاد بتوحيد المؤسسات المالية وإعلانية إدارة عوائد النفط، ومواجهة التضليل الإعلامي بوضع قوانين تمنع خطاب الكراهية وتعزز الإعلام المستقل.
على الرغم من وجود هفوات طفيفة — لاتصال الكاتبة بالأحداث — إلا أن الكتاب يظل عملا جريئا ومهما يكشف غطاء التعقيدات في الأزمة الليبية. قوة الكتاب تكمن في الجمع بين رواية وقائع مثيرة (كالاجتماعات السرية مع زعماء المسلحين) وتحليل عميق لسقوط الدولة.
الجانب الضعيف: إغفال تفصيل دور المرأة الليبية في النزاع وما بعده، مع إشارتها المختصرة إلى مبادرات نسائية محلية.
الكتاب مرجع مهم للباحثين في النزاعات الدولية: لفهم كيف تتحول الثورات إلى حروب وسيطة. صناع السياسات: كإرشاد يحذر من خطر الحلول السطحية في الدول الهشة.
كما يهم الكتاب الليبيين أنفسهم: كمرجع لفهم أصول أزمتهم وسبل الخلاص منها.
باختصار، ليس هذا الكتاب سردا تاريخيا فحسب، بل هو نداء للعمل لإعادة تحديد دور المجتمع الدولي في بناء السلام، مع إيثار إرادة الشعوب على مصالح القوى الكبرى.