منصة الصباح

كافكا الليبي

إطلالة

بقلم / جمال الزائدى

قبل أن يزوره ملاك الموت بقليل ، قام الكاتب التشيكي اليهودي «فرانز كافكا» بإحراق أكثر من ثمانين بالمئة من كتاباته ..وعندما كان على فراش الاحتضار توسل لأقرب أصدقائه أن يحرق ماتبقى من أعماله ..لكن صديقه خذله ولم ينفذ وصيته اليائسة..

لن نستغرب مافعله « كافكا» ، إذا علمنا أن مانشر له من نتاج في حياته لا يتعدى الست  قصص ، لم تلاق اهتماما ولا إشادة من أحد ولم تحدث الصدى الذي قد نتوقعه نحن المعجبين المتأخرين بكتاباته ..

هل كان عبقري الرواية الكابوسية..متجاوزا لذائقة عصره .؟ أم أن أسلوبه الصادم في رصد التفاصيل المرعبة لرحلة الانسان نحو مصيره المحتوم ، وتصوير مشاعره وانفعالاته الغريبة في عوالمه الداخلية معتمدا اسلوبا مختلفا عن كل كتاب السرد الذين سبقوه ، كان يحتاج إلى كل ذلك الزمن كي تستوعبه قدرة المتلقي على التواصل مع النص غير الملتزم بالسياق التقليدي للمرحلة..؟

طوال العقود الأولى من القرن العشرين كان مؤسس تيار الكافكاوية في عالم الادب الحديث بعيدا عن دائرة اهتمام النقاد والمفكرين ، فلم يعرف على نطاق واسع الا في عقد الستينيات من القرن المنصرم حيث ترجمت اعماله إلى مختلف لغات العالم..

أحد أهم مفاتيح عوالم كافكا ، تجردها من قيد المكان والزمان ، كأن أبطالها اشباح تحوم في فراغ عميق شاسع بلاحدود..ولعل هذا الامر هو سر من أسرار خلودها وطزاجتها الحادة.. ولعل هذا الأمر – أيضا – يفسر سوء الفهم الذي جوبهت به أعماله من قبل هؤلاء الذين حاولوا إختراق قشرة الغموض التي غلفت أعماله..

كتابات كافكا – كما يجمع على ذلك معجبوه قبل كارهيه – اشتهرت في كل أنواعها بالسوداوية والكآبة والغموض ..عاكسة سمات زمن استولى عليه القلق والاضطراب وعدم اليقين في قيم ومفاهيم طالما احتلت مرتبة البديهيات المطلقة على مدى العصور..لكن جذور مايطغى على اعماله تعود إلى فترة نشأته وعلاقته بوالده الذي حاول اعادة تشكيل شخصيته الهشة وفق هواه كتاجر ناجح وأب متسلط ..تقول المترجمة هبة حمدان في مقدمتها لمجموعة كافكا « الحكم وقصص أخرى» الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع ، في تحليلها للعلاقة بين الأب والابن : «هذا أدى إلى نوع من الصراع والخلاف الدائم بينهما حول كل أمور الحياة على وجه التقريب ….فالاحساس العميق بالغربة والعزلة تملكه حتى في روايات عائلية تضم العديد من الأهل والأصدقاء …..فتجد أبطال قصصه ضعيفين منهزمين ولاتجد أي تفاؤل فيها ، ليستحق كافكا بجدارة اللقب الذي أطلق عليه رائد الروايات الكابوسية»

في ظني أن هذا المقدار الهائل من الشفافية والصدق ، الذي تمتلئ به أعمال فرانز كافكا ، هو ما يجعل من هذه الأعمال وجبات دسمة صعبة الهضم بالنسبة لمن يبحث في الأدب عن التسلية وتزجية الوقت ، ولايعتبره محاولة شخصية لقراءة العالم والوجود بعيدا عن ضوابط الفكر ومناهج الفلسفة ..

الغريب أنني كلما أعدت قراءة عمل من أعمال هذا المبدع البائس خلال السنوات الاخيرة التي نعيش فيها نحن الليبيين اسوأ كوابيسنا ..تصورت ان كتابات كافكا تصلح ان تكون ذاكرة – بتاريخ رجعي – لما يحدث لنا اليوم

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …