باختصار…
د. علي عاشور
عندما كنت عائداً من مطار معتيقة، متخذاً طريق الشط مسلكاً، استوقفتني الإشارة الضوئية، فتوقفت، وكنت أول المتوقفين، ولبرهة من الزمن جالت أنظاري على جانبي الطريق، فوقعت عيناي على عدد من العمالة الوافدة من أبناء أفريقيا السمراء، وهم منهمكين في كنس الرصيف دون كلل أو ملل، بينما تنتصب سيارة للشرطة في الجانب الأخر من الطريق متخذةً مكاناً بارزاً ومرتفعاً، يقف بجانبها أحد العناصر، مرتدياً ذاك اللباس الأبيض الناصع، واضعاً على عينيه نظارتين سوداوين، في منظرٍ يزيد من أناقته وهيبته، لاسيما وهو يتحسس -بين الحين والآخر- سلاحه الذي يضعه على خصره الأيمن.
وبينما كنت أنتظر انتقال لون الإشارة الضوئية من الأحمر إلى الأخضر اذاناً بالمرور، سمعت منبه سيارة يأتيني من الخلف، نظرت في المرآة، وما هي إلا سيارة ضخمة من نوع هجين، فلا هي من السيارات الصغيرة ولا هي احدى الشاحنات، لكنها سيارة عريضة ومرتفعة بفضل الإطارات والإضافات التي زادتها ضخامة، ناهيك عن صوت أزيز محركها الذي كاد ينفجر، عندها أشرت لسائقها بإصبعي السبابة نحو الإشارة الضوئية التي كانت لا تزال تلمع بلونها الأحمر، فنزل منها شاب يختال في مشيته، مزهوًا بعضلاته التي حرص على إظهارها، وقف بجانب سيارتي وهو يقول: علاش المثاليات؟ أجبته: الإشارة حمراء يا أخي، ثم أشرت له بحاجبي إلى الجهة التي يقف فيها رجل الشرطة، على أمل أن يرتدع عند رؤيته، عندها قال لي: دير الزقزاق وعدي يا راجل… سألته: شنو تقصد بالزقزاق؟ أجابني: اسرق الطريق سرقه واطلع. تعجبت لقوله ذاك، وهو بهذا العمر الذي يتجاوز منتصف الثلاثين على أقل تقدير.
الملفت للنظر أن صاحبنا صاحب الهيبة والأناقة كان يشاهد كل ذلك، لكنه لم يكلف نفسه عناء التحقق مما يحدث في هذا التقاطع الطرقي الذي هو مؤتمن على كل ما يحدث فيه.
في المساء سردت هذه القصة لصديقي الذي يعمل معلماً في احدى المدارس، فانتابته نوبة من الضحك، ثم قال: هذا اللي صار معي في المدرسة فترة الامتحانات الماضية، فقد جاءني خمسة طلاب قبيل بداية امتحان مادة الرياضيات، وطلبوا مني مساعدتهم في الامتحان، ممهدين لطلبهم بأنها مادة صعبة، وأنهم لم يكملوا المنهج، وبأن معلمة الرياضيات لا تستطيع توصيل المعلومة بالصورة المثلى.
ثم تابع أحدهم مسترسلاً: أنت يا أستاذ قالوا عنك صعب في المراقبة، لهذا إذا كنت ستراقب على لجنتنا يا ريت تساعدنا، فقال قاطعته وقلت له بنبرة فيها نوع من الغضب: وكيف أساعدكم؟ هل تريدون أن أغششكم مثلاً؟ عندها تقدم نحوي طالب أخر كان يقف خلفه محاولاً إخفاء ابتسامته، وقال: يا أستاذ إذا راقبت علينا اليوم (دير الزقزاق)، سألته متعجباً: شنو الزقزاق؟ أجابني: يعني لو شفت حد يغش في الامتحان دير روحك ما شفتاش، ثم أضاف: يعني (دير روحك أحول يا أستاذ) قال: تعجبت من جرأتهم التي لم أعهدها فيمن هم بأعمارهم، وقلت لهم: إياكم وأن تعيدوا مثل هذا الكلام مرة أخرى، وتركتهم وانصرفت.
فقلت له متحسراً: تحية لمدير المركز الوطني للامتحانات؛ لأنه أعلن رفضه لاتباع ثقافة الزقزاق حتى مع نفسه، معارضاً على انتشار ظاهرة الغش، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه الثقافة “ثقافة الزقزاق” منتشرةً انتشاراً كبيراً في مجتمعنا، فالكل إيدير في الزقزاق، سواء في الامتحانات أو في البيت أو الشارع أو أماكن العمل… ومع هذا فهؤلاء هم أنفسهم من ينشر التذمر في هذه البلاد.