منصة الصباح
د. علي عاشور

قَلْبٌ صَغِير… وَوَجَعٌ كَبِير

باختصار

في صباحٍ ليبي عادي، حيث تخرج الشمس ببطء من بين سعف نخيل السانية المجاورة لبيته، يستيقظ أحمد قبل أقرانه، لا يوقظه جرس المدرسة، ولا نداء الأم ليتناول الإفطار، بل ذلك الوخز الصغير الذي صار جزءاً من جسده منذ سنواته الأولى.

أحمد لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، لكنه يحمل في جسده عبئاً أكبر من عمره “داء السكري”.

ينظر أحمد إلى قطعة الشوكولاتة الموضوعة على رف عال في المطبخ، يحدق فيها كما يحدق طفل في لعبة محرمة، لا يعرف تماماً معنى “السكر” كما يشرحه الأطباء، ولا حتى محاولات الأم لشرح خطورة عدم المحافظة، ولا يدرك خطورة لقمة زائدة أو حلوى مسروقة. هو فقط طفل… طفل يحب الحلوى، وتغريه الألوان والروائح، بينما يقال له كل يوم: “ممنوع”…. كلمة ثقيلة على قلب صغير.

أما الأم فتراقبه في صمت، ليست معاناتها في خدمته أو في قياس السكر مرات لا تحصى، بل في ذلك الوجع الخفي الذي يسكن قلبها كلما رأت عينيه تتعلقان بما لا يستطيع أكله، فهي تعي أن قطعة حلوى قد تسعده دقائق، لكنها قد تدخله في مضاعفات لا تحمد عقباها.

تخرج حقنة الإنسولين في موعدها، يدها ثابتة لكن قلبها يرتجف، تعلم أن الجرعة إن أخذت ولم يكمل أحمد طعامه جيداً، فقد “يغمى عليه” فجأة… والمدرسة شاهدة على ذلك… فكم من مرة رن الهاتف في منتصف توقيت الحصص، وصوت الإدارة مرتبك: “تعالي بسرعة… أحمد أغمي عليه”. تركض الأم، لا تشعر بالطريق، ولا بالناس، فقط تخاف أن تصل متأخرة… لكم أن تتخيلوا حجم الألم الذي يعتصر قلب الأم في تلك الدقائق.

في ساحة المدرسة، يلعب الأطفال بلا حساب، يضحكون، يأكلون ما يشتهون…. بينما أحمد يجلس جانباً، يحمل حقيبته، ويخفي دموعه… هو لا يكرههم، لكنه يتمنى لو كان مثلهم، لو أكل قطعة شوكولاتة دون خوف، أو ركض دون أن يقاس السكر قبل وبعد.

أحمد ليس حالة فردية، بل هو نموذج لعشرات، بل مئات من أطفال السكري في ليبيا، أطفال يعيشون بين المنع والرغبة، بين الإبر والدفاتر، وبين الخوف والأمل. مضخة تنظيم الإنسولين، التي يمكن أن تغير حياتهم، تظل حلماً بعيداً، فأسعارها باهظة وتفوق قدرة أغلب الأسر الليبية، في ظل تقصير واضح من وزارة الصحة التي تقف شبه عاجزة عن تلبية احتياجات هؤلاء الأطفال، لا من حيث الكمية التي لا تغطي الواقع، ولا من حيث الجودة التي كثيراً ما تثير قلق الأطباء والأهالي على حد سواء…. فإبر الإنسولين المتوفرة في أحيان كثيرة ليست بالمستوى المطلوب، ما يضاعف معاناة الأسر، ويجعل رحلة العلاج محفوفة بالقلق والتجربة والخطأ، وسط سوء إدارة، وغياب للمساءلة، وانتشار للفساد، وكأن المرض وحده لا يكفي، بل يضاف إليه عبء البحث عن دواء آمن وفعال لطفل لا ذنب له سوى أنه ولد مريضاً.

تختم الأم يومها بالدعاء، لا تطلب معجزة، فقط حياةً أقل قسوة لطفلها…. أحمد ينام، ويده الصغيرة تحت الوسادة، يحلم بحلوى لا تضره، وبغدٍ لا يغمي عليه فيه….. وبين الحلم والواقع، تستمر حكاية أطفال السكر… حكاية موجعة، لكنها تستحق أن تروى.

   د. علي عاشور

شاهد أيضاً

د. مجدي الشارف الشبعاني

نحو ميثاق للإعلام الأمني ، بيان ما (ينشر وما يستر)…..

د. مجدي الشبعاني أستاذ القانون العام – الأكاديمية الليبية عضو المجلس العلمي بمركز الدراسات والبحوث …