محمود السوكني
أنا لست بيتوتيا ، ولا اقوى على البقاء داخل البيت طويلاً فأنا لا أحتمل حصار الجدران ولا استسيغ الضوضاء التي تشترط وجودي حتى يستعرّ أوارها ، وقد تكون تلك طريقة خاطئة للترحيب بمقدمي ، أو هي إعلان مبطن يفيد بعدم الرغبة في وجودي أصلا !! وأنا لا أستبعد التفسير الثاني ، فأنا كثير الشكوى داخل البيت ، وكل ما أراه لا يعجبني ، وكل ما أسمعه لا أستسيغه وكل ما هو ثابت ومقيم ما أقام عسير ، يتراءى لي في وضع مقلوب ، وهكذا دواليك. وعليه فإن وجودي المطول داخل البيت وعلى غير العادة وفي غير الأوقات الطبيعية ، يعد إشعار ببدء ثورة عارمة أتخلص عبرها من كل مشاكل الحياة وهموم الدنيا وألقي بها في وجه من يصادفني أو من يلقي به حظه العاثر في طريقي .
لهذا أتجنب قعدة البيت المطوّلة ، وإن كنت أحن إلى جلسات اللمة العائلية ، وقعدة الشاي، وهدرزة النميمة و “القرمة ” والتي نستزيدها ونحن نقول دون أن نقصد ذلك ( فكونا من سيرة الناس ، وخلونا في حالنا وأحوالنا) !
أرأيتم كيف أن قعدة البيت تحمِّلنا الآثام أو تنتهي إلى معارك غير واجبة !
لكنه المرض ، عافانا وعافاكم الله ، عندما يصيب أحدنا ويقعده ويشل حركته ، فلا راد لقضائه ، ولا سلطان عليه ، سوى الطب بأنواعه والدعاء الذي نرجو أن يكون مستجاباً .
الملفت في الأمر ، أن المرء يتذكر – إذا ما كان ناسياً وغالباً ما يكون – علاقته بالخالق ، التي في العادة تكون مهزوزة وفي حاجة إلى تثبيت أركانها وتوطيد دعائمها ! يتراءى للمرء عندها الحق والحساب ، الجنة والنار ، وعذاب القبر ورحمة الرحمن ، السيرة النبوية العطرة وكلام غلاة المتشددين ، وتقفز إلى الذاكرة الأحاديث المحفزة كالحسنة بعشرة أمثالها والكلمة الطيبة صدقة ، ومن أطعم جائعا كمن أطعم الناس جميعا ، وقصة ذلك الرجل الذي سقى كلبا يكاد يقضي من العطش فأدخل الجنة ، وغيرها من الأمثلة والأحاديث التي تشعر وأنت تستعرض تاريخ حياتك في هذا الموقف الصعب بأنك قد قمت بمثلها أو ما يشبه ذلك ، فتسري في أوصالك بعض الراحة ، وتستكين جوارحك قليلا ، وتهدأ النفس المضطربة ، وتترك لخيالك العنان وأنت تجوب الجنة الموعودة وتصاب بحيرة الاختيار بين الديار والقصور التي تعرض عليك!!
وفجأة ، عندما يشتد المرض ، ويزداد الألم تعود إلى واقعك المزري ، تلتمس النجاة على يدي أم العيال شريكة الرحلة والتي تتجلى عندئذ مكانتها ، وتتكشف لك قيمتها التي كنت غافلا عنها ، فإذ بها البلسم الشافي ، وإذا بها الترياق لكل داء ، وإذ بذلك الصدر الحنون باحة رحبة تزخر ودّاً وحناناً وتعبق مسكاً وعنبر ينعش القلب ويعطِّر المكان وينتظم مع دفقاته رتم الحياة .