منصة الصباح

قطار السلامة ومحطات الندامة

زايد…ناقص

بقلم /جمعة بوكليب

العواصف أنواع. منها قصيرة المدى زمنياً ومنها التي تستمر لأيام. هناك عواصف تجيء وتمضي ولا تترك وراءها سوى أثار طفيفة على سطح الذاكرة، كجرح صغير يلتئم سريعاً. وهناك أخرى تهبُّ، فجأة، وحين تمضي تترك ندوباً غائرة في أقصى حنايا الذاكرة، وجروحاً لا تلتئم في القلب، وتداعياتها تستمر لسنوات طويلة، وقد تكون سبباً في هبوب عواصف أخرى أشد.
التقدم العلمي، في مختلف المجالات، شمل، أيضاً، التطور في مجال دراسة العلوم المناخية والطقسية. وصار من الممكن التنبؤ بأحوال الطقس، من يوم لأخر، كما أصبح ممكناً التنبؤ بالعواصف والأعاصير، والاستعداد لها، والتهيؤ للوقاية من أضرارها. لكن المتخصصين في العلوم المناخية والتغيرات الطقسية، لأسباب عديدة، يعجزون أو يخطئون، أحياناً، في التنبؤ بالعواصف. وحين يحدث ذلك، يكون حجم الضرر كبيراً، لأن هبوبها الفجائي، والناس عنها غافلون مطمئنون، مستغرقون في تفاصيل حيواتهم، على غرار ما حدث يوم 11 سبتمبر 2001، بمدينة نيويورك. أوكذلك، على غرار العاصفة التي سُمّيت بـ ” الربيع العربي”، ومازلنا نخوض إلى يومنا هذا، بنسب مختلفة، في أوحالها وتداعياتها، ليس فقط في مناطق حدوثها، لأن من طبيعة العواصف الفجائية العظيمة أقتحام الحواجز الطبيعية والانسانية بمختلف تنوعاتها، حتى تلك التي وضعت لترسيم الحدود بين الجغرافيا والتاريخ، أو بين التباين في الأديان والتنوع في الأجناس والتمايز في اللغات، أو تلك التي تفصل بحدّةٍ بين المُمكنِ والمستحيل.
وفي ذات السياق، وعلى نفس المنوال، يمكن القول إن تفشي وباء فيروس كورونا عاصفة أخرى، بقياسات وايقاعات مختلفة، لم تقتصر على مدينة أو بلد. ولم تستثني أحداً، وأربكتنا جميعاً، أينما كنّا، فاستجرنا من ملاحقة موت يطاردنا هاربين إلى حِمى بيوتنا. وتبقت شوارع مدننا، الكبيرة منها والصغيرة، براحاً مفتوحاً تحتله، مؤقتاً، جيوش الفراغ، في انتظار مرور الزوبعة المميتة.
الحجر الصحي، الذي يقيدنا بالخوف من الموت، بين جدران البيوت، ويجعلنا فرائس لتوتر نفسي متواصل، يجعلنا، أحياناً، نشعر بأننا لانختلف عن مسافرين في محطات، موزعة في مختلف بلدان العالم، وجميعهم في أنتظار وصول قطار واحد، لينتشلهم من مأزقهم، ولينقلهم إلى حيث يمكنهم، تنفس الصعداء، والاسترخاء فرحاً بسلامتهم من الاصابة بالوباء، وبالعودة إلى استنئاف حيواتهم. القطار المنشود والمقصود، بدأ رحلته، مؤخراً، لكن جهته المقصودة غير معلومة، وبالتالي، ليس أمام المسافرين في مختلف المحطات، بمدن العالم الأخرى، سوى مواصلة الانتظار، وتسكين خوفهم بابتلاع كميات مختلفة من حبوب المسكنات، وفي مقدمتها وأهمها حبوب مُسَكّن الأمل.
الأمل بقرب وصول قطار، يتحرك ببطء وبتردد، إلى كل المحطات المتناثرة على اليابسة، قد يستغرق وقتاً، ويقيناً أنه سيتمكن من اكمال رحلته، وبالمرور على كل المحطات، ونقل ما توفر بها من بشر. ما ليس يقيناً، ويدخل تحت مظلة الشك، هو استمرار تواجد تلك المحطات. والسبب أن بعضها، خاصة ممن يقع منها فيما يطلق عليه مجازاً بالمناطق الساخنة، ويقصدون بذلك المناطق التي تعاني من ويلات الحروب، في بقع كثيرة على خريطة العالم، قد يتعرض للتدمير، ويتحول إلى أنقاض، ويتحول البشر المنتظرون إلى مجرد أرقام تضاف إلى ألاعداد المشمولة في الاحصائيات التي تبث في نشرات الأخبار العالمية. الأمر الذي يعني أن قطار السلامة المأمول، سيمر بمحطات الندامة تلك من دون توقف، ومن دون حاجة لذرف دموع شفقة، على من قضوا وأنتهوا، لأن القطارات، بطبيعتها، منذ اختراعها، وتصنيعها وتواجدها في الحياة البشرية لم تتعود اطلاقاً على التعاطف مع ما يصيب الانسان من كوارث من صنع يديه.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …