منصة الصباح

قصة قصيرة .. شكماجة

عزة المقهور

تدور منيرة بوجه قلق في بيتها بحي “صلاح الدين”، تلتفت نحو الجدران بعينين حائرتين وفم تزفر منه أنفاسها المتلاحقة، تفتح الأدراج وتعبث بما فيها دون أن تجد ضالتها.. وكلما اشتد القصف ازدادت حركة تفتيشها تلك دون جدوى، حتى أنها دخلت مطبخها الفسيح وفتحت أدراج دواليبه الحائطية بعصبية تفتش فيها دون أن تعيد إغلاقها.

وكلما ارتفعت وتيرة الصفير واقتربت، ولحين انقشاعه، تتجمد منيرة وهي تغلق يديها بقوة فيما حدقتاها تزوغان بقلق، وكأنها تلاحق الصفير وهو يطير وتخمن مكان سقوطه أو تنتظر باستسلام أن يكون المكان حيث هي. لا تزفر تنهيدتها إلا بعد أن تسمع دوي الانفجار وتشعر برجة البيت تجتاح مفاصلها، أو تشهد النوافذ تشق صدرها وتكشف عن هواء ممزوج برائحة دخان ثقيل. لكنها سرعان ما تستأنف بحثها وهي تردد ” اللي تجي فيه ربي يصبره.. الفجي”.

لا تتوقف منيرة، تعاود حركتها القلقة ودورانها العبثي في البيت كنملة قذفت بها الريح بعيدا عن مستوطنها، شعرت لأول مرة بأنها لم تعد تعرف المكان وأن الزمان توقف، وأن الذكريات فرت من النوافذ، وأن الجدران تعرت ولن تنبت عليها حكايا.

كانت الأدراج المفتوحة، والأشياء المتساقطة منها وحتى تلك التي ماتزال متشبثة بها تعلن الهجران.

ما إن استعادت منيرة هدوءها وأسكنت من روعها في خبايا نفسها، حتى اتجهت بخطى بطيئة، نحوها دون غيرها، هي التي تتصدر غرفة نومها، بزجاجها المشقق المسطح على ظهرها، وخشبها الذي شاخ وبهت لونه، والندوب التي علقت بجوانبها، وأياديها التي لحقها الصدأ، وأدراجها المتعبة كعجوز صعبت حركتها…إلى “الشكماجة”.

حينما انتقلت “منيرة” من محلة “بلخير” إلى حي صلاح الدين حرصت على نقل “شكماجتها” معها.

طوال خمسين عاما لم تغادر منيرة محلة بالخير.. ولدت ونمت وأينعت وذبلت فيها. وحتى حين أسرها قلبها ورهنها لسعيد ابن الجيران، تبعته مطواعة من بيت والدها في زنقة “أجدابيا” إلى غرفة “العلي” بزنقة “غريان” بذات المحلة.

في كل المدن هناك أحياء تركن إلى الظل تكتفي بذاتها حتى وإن كانت تقع في قلبها، ومحلة “بلخير” من هذه الأحياء.

رغم أنها على بعد أمتار من مركز المدينة (ميدان الشهداء) ومن أشهر أقواس أسواق المدينة القديمة (سوق المشير) إلا أنها تكاد أن تكون مدينة لحالها تعطي ظهرها له وتنظر نحو الأعلى  حيث مقبرة “سيدي منيدر”.

تنتشر مساكنها المتلاصقة أفقيا ورأسيا ما بين حي عربي بطراز معماري يشبه بيوت المدينة القديمة، وحي آخر بناه المستعمرون بطراز إيطالي واستوطنوا معهم مشاهيرهم في عناوين أزقتهم. تعايش الجامع والكنيسة حتى وإن تفرقا بين الأزقة. وكما حركة التاريخ، حركة المدن واحيائها، هي أول من يتأثر بها ويتغير معها، هُدم جامع بلخير وحل محله جامع آخر وتحولت الكنيسة إلى مبنى إداري، وتبدلت عناوين الأزقة والشوارع وتهدم الكثير من مبان المحلة، إلا “سيدي منيدر” وقاطنوه ظلوا يتنامون ويتجاورون وحتى يختلطون.

لم ترتح منيرة منذ أن انتقلت “للعلي”.. كان ضيقا يشبه مكان التخزين تؤدي إليه سلالم مظلمة وضيقة، يتكون من غرفتين، وحمام بالكاد يتسع لشخص واحد، يشتمل على مرحاض وحوض، لكنه يتسع قليلا من خلال نافذتيه المطلتين على الزقاق، حتى لكأن “العلي” يتمدد ويزحف نحو فراغ الزقاق، يحجبه عنه خشب عين الزرزور، يتخلله الضوء طوال النهار ويرسم على سريرها مربعات ضيقة، تخبئ بينها أحلامها التي لا تتحقق، وتدس اشياءها في جيوب “شكماجتها” التي حشرتها في عنق يشبه الممر.

أسفل “العلي”، وعلى امتداد زقاق “غريان” يسكن أهل زوجها، يشبه البيت معمار المدينة القديمة لكنه مسقوف، تتناثر حوله الحجرات، وتطل منه عديد الرؤوس منها المغطى ومنها الحاسر. تعلو مشاحناتهم وصراخهم، وأحيانا أغانيهم وزغاريدهم، لكنهم جميعا ينادونها فهي زوجة أكبرهم “سعيد”، تخدمهم وتلبي طلباتهم.

“يا منيرة”… تنزل منيرة قلقة، لكن سرعان ما يناديها سعيد فتصعد إليه مسرعة…

كانت منيرة أشبه بجنان النوار، البقعة الخضراء الوحيدة في المحلة، حديقة مهملة، حبيسة مربع تقع على حافة المحلة.. بلا نوار.. سوى شجيرات مبعثرة كذقن غير مهذب على وجه رجل عجوز.. قاومت عبث الصبية وإهمال سكان الحي وشح المياه ومرور المنهكين والفارين من قيظ الظهيرة دون امتنان لظلال شجيراتها.

حاجبا منيرة مقوسان وكثيفان يشكلان هلالين حول عينين تسكبان عسلا يحدهما خط أسود كأنه يمنعهما من الاندلاق، شعرها الأسود الناعم الكثيف كان رايتها وهي تتجه كل صباح إلى معهد التحرير في شارع أول سبتمبر، جسدها متناسق بقامة معتدلة. تمضي مساءاتها تفرد شعرها وتعتني به وتلفه قبل نومها، وفي الصباح تطلق سراحه فيطلق خلفها همهمات الشباب وخيالهم. كأن سعيد أولهم وآخرهم.. يتبعها في غدوها ورواحها، وحتى حين تمطر يسير خلفها دون مظلة كظلها ويتلقى كل المطر وهو يمني نفسه بأنه يتلقاه نيابة عنها، حاصرها وأعلن أنها له ثم قطفها. وهكذا ظلت منيرة في المحلة تقطن “العلي” مع سعيد، تشارك في أعباء بيت أهله وتنجب له الأولاد.

عملت منيرة مُدرّسة بمدرسة الجلاء الابتدائية بشارع ميزران، تعود للبيت وقد صبغ أصابعها دقيق الطباشير وغطى أهداب عينيها، ترتدي فستانها القطني وتهرول مسرعة للمطبخ، يصل سعيد متأخرا من عمله في فرع المصرف المجاور مصطحبا معه أرغفة الخبز الساخن. تلقي منيرة بالمفرش على الأرض ثم تضع عليه السفرة الخشب الدائرية ذات القواعد وفوقها السفرة الألومنيوم، وصحون الأكل. تطبخ لكل سكان البيت ثم تجمع الأواني وتغسلها.. وبعد راحة قصيرة تصحح الكراسات وتحضر للدرس القادم..

“الحوش ورثة والعيلة بيبيعوه”.

رغم كل الشقاء ما بين “العلي” والدور الأرضي، وكل الأكل الذي تذوقوه من يديها ومشاركتها في تربيتهم، أصر أشقاء زوجها على البيع بعد وفاة أبويهما.. لم يشفع لها أنها وحدها من بقي في البيت بعد رحيل سكانه، حيث نزلت من “العلي” إلى الدور الأرضي لتعتني بأم سعيد التي أقعدها المرض حتى وفاتها، تستقبل الأبناء والأحفاد فيتسع قلبها رغم ضيق المكان.

“كله بالشرع.. هذا حوش العيلة”.

مرت الحياة بشقاء.. جمعت منيرة أوراق الدنانير المجعدة والرطبة من الجمعيات التي تديرها المدرسات، وتحصل سعيد على سلف من المصرف الذي يعمل فيه، اشتريا قطعة أرض في ضاحية طرابلس الجنوبية بمحلة صلاح الدين، وبعد ثلاثين سنة زواج اكتمل الدور الأول من البيت. حين انتقلا، بكت منيرة وهي تزغرد، واختلطت دموعها بلعابها… شعرت أن سنوات الشقاء قد أفضت إلى انفراجة.. تلك النقلة من حجرة تتكدس فيها الحقائب والأولاد، إلى بيت، بحجرات ومطبخ وشرفات وحديقة، وخريطة لبناء دور أو دورين آخرين.

لكن سعيد كان يذبل.. كان يعزو ذلك “للبني” وما أسرف فيه من جهد وتدبير وانشغال في توفير مواد البناء… تقترب منه وقد خفت صوته، يبتسم ويذكرها بأيام “بلخير” حين كان يتسلل خلفها كظلها..

“ايامات “بلخير” يا منيرة.. أيام “العلي”.. تتفكري؟”

” حتى الوسع ما عندك ما تقول فيه يا سعيد.. توا تنوض ونقعمزوا في الجنان”..

لكن سعيد لم يخرج من غرفته إلا إلى سيدي منيدر، رحل سعيد بعد عام من الانتقال للبيت الجديد..

بكت منيرة.. ضربت على صدرها ونحبت يوم أن ودع بيته في صندوق خشبي. في تلك اللحظة تذكرت كل رسائل الحب التي تحتفظ بها في صندوق خشبي أودعته “الشكماجة”.

الشكماجة” صرخت منيرة.. “الشكماجة”.. وهي تتجه نحوها مسرعة اثناء هوجة القصف. أوقفها ابنها وأمسك بيدها.. كان “سعيد” الصغير وأمه في السيارة التي ترتعش بفعل محركها وقد ازدحمت بالأغراض حتى خرجت من نوافذها و من صندوقها الخلفي.. لكن منيرة ما تزال في البيت في حالة بحث دائم وقلق بائن في كل حركات جسدها..

“يا أمي.. الضرب زاد راهو… والوليد في السيارة”

حررت منيرة يدها من يده واتجهت نحو “الشكماجة”..

“شن تدوري يا أمي؟”

رفعت عينيها في وجهه وقد بللت وجهها الدموع..

“عقد الزواج يا ولدي.. مش قلت نجيبوا الأوراق المهمة.. عقد الزواج..”

ربت ابنها على كتفها واقترب منها..

“شن بتديري بيه يا أمي.. بوي مات.. بوي مااااات”.

توقفت منيرة فجأة وهي تضع يديها على حافة الدرج الأول من “الشكماجة” وقد صعقها الواقع، تتمعن في محتويات الدرج..فرشاة شعرها وقنينتا كحل وطلاء أظافر جافة، وملقاط، ومقص، وزجاجة عطر بلا عنوان، ووثيقة الزواج المطوية بحجمها الكبير يتخلل ظهرها حبرا أسود غليظ، وصندوق خشبي مغلق على رسائل سعيد إليها. حملت الصندوق الخشبي، وأغلقت بطريقتها الدرج الكسيح، ومسحت بكمها عينيها وأنفها..

جرجرت قدميها نحو السيارة بينما “سعيد” الصغير يصرخ،

“هيا يا أميّمة.. هيا”

تحاشت منيرة النظر أمامها وهي تغادر الحي، رأت وجوها غريبة ومكفهرة تنتشر فيه، رجال يصرخون، وسيارات تتنافس على الرحيل وهي تميل وتنوء بحملها، ونساء تلوحن بأيديهن في الهواء…وأطفال منزوون ومنسيون…

أدارت وجهها إلى الخلف وهي تعلم أنها لن تتجه إلى “بلخير”.. وتمنت لو يأخذونها إلى “سيدي منيدر” لتتوسد الجب إلى جوار “سعيد”.

شاهد أيضاً

موسى يؤكد ضرورة سرعة ودقة إدخال بيانات الحجاج للمنظومة الإلكترونية

أكد منسق المنطقة الوسطى أ (مصراتة – زليتن – الخمس – مسلاتة) علي محمد موسى …