بقلم : جميل حمادة
الشاطيء المتوسطي الجميل يسحرك بمياهه الصافية، ولجته الزرقاء على الصخور، والنوارس تدور حولك. كان هنالك نورسان؛ كنت أحاول أن ألتقط لأي منهما صورة، وهو ينقض على سمكة البوري في وسط الماء؛ .. «ها هي هناك تلمع يا حيوان..!! الحق بها» أكلم النورس طبعا.. هم دائما يقولون طبعا..! وقبل قليل كنت أكلم عصفورا كان قادما من مأدبة افطار يبدو أنها كانت شهية. أعرف لغة كثير من هذه الكائنات، كانت صديقتي في زمن ما..كنت روحا أخرى في بلاد الاغريق، على ما أذكر. فقد كان الطائر يمسح منقاره بتلذذ واضح ذات اليمين وذات الشمال. قلت له: كيف كانت الوجبة..!؟ قال: كانت رائعة، ولكنها كانت دسمة قليلا، وأنا لا أحب الدسم الكثير..حتى حليبي الذي أشربه قليل الدسم جدا.. قلت أكيد هي سمكة مدهنة!؟ قال: صحيح..أنها شلبة.. هو قال لي شلبة.! آمل أن يكون خبيرا في الثروة البحرية، ولا يتحدث مثل المحدثين المعاصرين عن البحر وكائناته. قال العصفور: كان ذلك عند بوابة البحر التي أضحت كما يبدو مصيفا خاصة بالبحارة وبيوتا جديدة من قش وأعجاز نخل جافة، وأخرى غرف مبنية بالإسمنت، وفجأة صار يسكنها عائلات. يبدو أنها لبحارة جدد هجروا المدينة أو البلدة، أو جاؤوا من بلاد بعيدة ووجدوا في هذا الشاطيء ملاذهم الآمن، بعيدا عن الضجيج، والرصاص والصراع على السلطة والمال والنفوذ والخطف والقتل والاغتصاب والبطالة والضياع والمقاهي والحروب الصغيرة والشجارات القبلية. منظر الشاطيء بدل مزاجي قليلا، فلم أنم جيدا هذا الصباح. قرأت كثيرا، بل أنهيت كتابا جديدا في ليلة ونهارها. كان رواية حديثة جميلة وشيقة لكاتب تونسي جديد هو أيضا، حيث نالت جوائز عديدة كما تناهى إلى علمي. كان اسمها «الطلياني» على ما أذكر، فيها الكثير من الحب والعلاقات المتشابكة والجنس المطروح بلغة ذكية بارعة بلا فظاظة أو اسفاف، إلا القليل من بعض المشاهد. وفيها كشف هائل ومثير للتطورات الاجتماعية ومراحل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في تونس إبان حكم بورقيبة وبن علي.
هذا الصباح لم يكن مزاجي على ما يرام. قمت من نومي مسهدا في حالة من التشرد الذهني والشخصي. لا أذكر أنني نمت أكثر من ساعة واحدة. وعندما رحت أصلي الفجر دخلت الاستقبال الخاص بالمستشفى الذي أرقد في ساحته. ودلفت إلى حيث دورة المياه التي في المدخل. قبل الممر الطويل ثمة صالة بها غرفة صغيرة فيها سرير واحد. في المرة الأولى كان هذا السرير فارغا. أما في هذه المرة فقد كان السرير مشغولا بشرطي. كان نائما تماما. كدت أنتهي من الوضوء عندما فاجأتني مغسلة الحمام بسقوطها على حجري بين يدي وهي ثقيلة جدا، وأنا في اللحظات الأخيرة من طقوسي. أمسكت المغسلة بيدي حتى لا تسقط.. لم أدر ماذا أفعل، وصنبور المياه مازال يصب الماء، حيث لم أستطع اغلاقه وأنا أمسك الحوض بكلتا يدي. أخيرا قررت أن أتركها على الأرض بهدوء، فإذا بي أجدها موضولة بالجدار بأنابيب المياه الساخنة والباردة، ولكن العراضات المعدنية التي تحمل المغسلة كانت قد اهترأت من الصدأ، وبينما أنا في هذه الحال، وكنت ما أزال أحمل المغسلة بين ذراعي، وإذا بجرس منبه الهاتف يرن من هاتفي على الخامسة صباحا..!! يا إلهي ماذا أفعل، سوف يستيقظ الشرطي. هل أترك المغسلة تقع على أرضية بلاط الإستقبال فتلقي ضجيجا مخيفا، أم أطفيء الهاتف قبل أن يستيقظ الشرطي الذي يرقد بجانب دورة المياه.. يا عالم، يا هووووه، يا ملائكة، أرشدوني ماذا أفعل؟ أخيرا ألقيت المغسلة رويدا رويدا وذهبت بكل هدوء كأبطال الكاوبوي، إلى معطفي الذي أضع فيه الهاتف وأطفأته. نظرت حيث يرقد الشرطي، لكنه كان مايزال نائما ولم يحرك فيه جرس الهاتف ساكنا..! قلت في نفسي: برافوووه، ونعم الشرطي أنت! أكملت وضوئي على الحنفية الداخلية لدورة المياه وخرجت. أخذت قبعتي وضعتها على رأسي ولبست معطفي كأي سيد محترم بريء وخرجت. لعنت أبنائي وشتمتهم بكل اللغات الحية التي أعرفها والتي لا أعرفها، وباللغات الميتة التي أعرفها.. وكلت لهم من السباب ما لم ينله مني لا شارون ولا حسني مبارك ولا حتى الملك عبدالله. قلت لهم يا كلاب.. يا حقراء..! قلت لهم «دانتو اطلعتوا أندال يا أولاد الكلب» … نعم قلت لهم ذلك وأكثر، أكثر مما قال صلاح السعدني في مسلسل آباء وأبناء ربما، وأكثر مما عانى حمدي الوزير في أحد المسلسلات التلفزية. لم أشتم اليهود كما شتمتهم؛ أو على الأقل جرعة الحقد التي كانت تحملها تلك الشتائم لم تصل إليها شتائمي للصهاينة ولا للأمريكان ولا للعملاء، ولا للإمبرياليين، ولا حتى للكومبرادور..!! تبيعونني يا أولاد الكلب، بمجرد أن غبت عنكم ثلاثة أيام.. ياخنازير.. نعم، قلت لهم يا خنازير.. والله العظيم..!!
على مسافة قصيرة من منتصف الليل، أو قبله بقليل، ذهبت إلى المقهى الخارجي التابع للمشفى. كنت في حاجة إلى فنجان قهوة وسيجارة، أو حتى نيسكافيه، ولكن الرجل قال أن الماكينة أقفلت.. ( وكأن الماكينة ستقفل نفسها بنفسها..) ضحكت في نفسي. شكرا..قلت له. ثم تذكرت بأنني أريد أن أتبول. قلت: ألا يوجد هنا دورة مياه؟ قال الرجل: فيه، وأشار إلى بيده ناحية الاتجاه الذي تقع فيه الدورة. “مشغول” قال الرجل الآخر الذي يجلس على كرسي الكاشير. أوكي. انتظرت كثيرا حتى خرج الزبون، الذي كان وكأنه يتبول نيابة عن مجمل العائلة..! لكن اتضح أن الرجل الذي كان يشغل الحمام ليس زبونا، ولكنه عامل القهوة نفسه.. تحدث كثيرا هذه الصدف العجيبة التي تشبه الخيال العلمي – أخيرا أصبحت دورة المياه شاغرة مثل وظيفة حديثة لا تحصل عليها. دخلت،وإذا بي أقرأ لافتة بخط جميل وعريض وواضح «لا تترك ورائك ما يجعلك تبدو جاهلا»..! نعم، هكذا. أعجبتني الجملة الحكيمة، ولكن لم يعجبني الخطأ اللغوي الصارخ، فأضفت له، ولها (.. في اللغة)!!
أصبحت على حافة الجنون، أتحدث إلى الظلال التي لم أعرف لغتها بعد، وأتحدث إلى العصافير والبحر والبوص والشاطيء والسيارات البطيئة والهواء، وإلى أناس غائبين أو موتى، أو خيالات تمر دوني ولا أتبين ملامحها. ذهبت وعند أعلى جبل على الشاطيء وقفت بسيارتي أفكر كيف حتى أطير بها من علو الجبل كي تشاهدني النوارس كيف أسقط في البحر.