منصة الصباح

قصة انقسام

                د. الهادي بوحمرة

                                            عضو هيئة صياغة مشروع الدستور

كان لديهم اعتقاد جازم أنهم شعب واحد، وأن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم،  وأن الخلاف السياسي بينهم مجرد سحابة صيف، وأن تحولهم إلى دولتين أمر غير وارد، وأن واقع انقسام السلطات والمؤسسات ما هو إلا أمر عارض سرعان ما  يزول، فالدولة واحدة وستبقى واحدة؛ لأن العرق واحد، واللغة واحدة، والثقافة  واحدة، فكل ما بينهما يقول بأنهم أمة غير قابلة للتجزئة، وأن من يتخوف من الانقسام هم بين غِرلا يدرك ما بين أهل الجزيرة الكورية من روابط التاريخ والجغرافيا الانقسام

ومغال يحمل الأمور أكثر مما تحتمل، وأن كل ما يجريه من قياس تاريخي هو قياس فاسد .

ورغم  تعاقب المؤتمرات الدولية والقرارات الأممية التي تؤكد على وحدة الشعب والدولة، من مؤتمر القاهرة 1943م، والذي أكد على أن كوريا هي واحدة وحرة ومستقلة، إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة 1948 بشأن إقرار حكومة شرعية وحيدة لكوريا، إلا أن الانقسام تكرس واقعا من مرحلة انتقالية إلى أخرى، فمن  يملك الواقع أقوى من كل النوايا والقرارات والشعارات، فاللاعب الدولي الأول  كانت له اليد الأولى في الجنوب، واللاعب الدولي الثاني كان له مفتاح الشمال

ولم يكن بإمكان وحدة الشعب واللغة والمصير- عند تغييب الشعب والاكتفاء بوجاهة الزعماء وبنخبة تفكر فيما يناسبهم- مواجهة الأقوياء، والحؤول دون الانقسام…  اندلعت الحرب، وكان هدفها الوحدة عند الكوريين المتقاتلين، وهدفها عند غيرهم  غير ذلك، فسلطة كل قسم من قسمي شبه الجزيرة ارادت أن تضم القسم الآخر عنوة ؛ كي تعود الدولة واحدة موحدة.

فالشمال اشعل الحرب من أجل الوحدة،  والجنوب دخلها من أجل الوحدة، وهي في الحقيقية حرب تخفي حربا بين آخرين،  وجزء من صراع يتجاوز الكوريين وقضيتهم الخاصة… أرادها المتحاربون من  أهل البلاد حربا تنتهي بالوحدة، وأرادها المتصارعون من غيرهم حربا لتكريس  نفوذ، وإزالة آخر، إلا أن التوازن بين النفوذين اقتضى أن تكون نهاية الحرب  بالانفصال… استمر الإيمان بالوحدة حتى بعد الحرب… إلا أن خدعة القاعدة  الدستورية التي تتمدد؛ دفعت أكثر نحو تجذر الانقسام… أراد الجنوب بالدستور أن  تكون بدايته في الجنوب، ثم يمتد إلى الشمال، فقد قام على أن كوريا واحدة، وأن  الشمال يتبع الجنوب، والذي هو جزء لا يتجزأ من كوريا، وأن الوحدة هي  الهدف … قابل المؤقت في الجنوب مؤقت في الشمال، وكان أساسه- أيضا- أن  كوريا واحدة، وأن الجنوب جزء تابع للشمال، ولا يقبل الانفصام عنه، وأن  فرض دستور في الشمال ما هو إلا بداية، وأنه يجب- مع الوقت- أن يمتد إلى

الجنوب… أصبح الكوريون- بعد ذلك – أمام دستورين، فلا قاعدة الشمال امتدت إلى  الجنوب، ولا قاعدة الجنوب امتدت إلى الشمال، واقتصر سريان كل قاعدة في  نطاقها الجغرافي الذي سُنت فيه، وتحول بهما المؤقت إلى دائم فالتقسيم انتقل من تقسيم واقعي إلى تقسيم مدستر في حدود ما يمكن فيه التطبيق.

وعلى الرغم من أن  النصين الدستوريين لا يعترفا إلا بكوريا الواحدة، دون تسمية للجنوب ولآ للشمال؛  إلا أنهما كرسا الانقسام، وأصبحا من معوقات الوحدة، فكل قاعدة تبنت نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا متناقضا مع الآخر، فلا الجنوب يقبل بحكم الفرد والاقتصاد الشيوعي، ولا الشمال يقبل باقتصاد السوق وبحرية المبادرة، ولا بحرية صندوق الانتخاب والتداول السلمي على السلطة… تعمق الشقاق والخلاف بمرور  الزمن، وأصبح التوجه الإيديولوجي لهم أولوية، فاليوم اقتصاد السوق هو معبد  الجنوب، والفكر الشمولي هو المقدس بالنسبة للشمال، وتراجعت أولوية الوحدة …  فبدل البحث عنها؛ أصبح الجهد يبذل من أجل وقف الحروب ونزع فتيل التوتر  بين الدولتين… تراكم ما يكفي من الكراهية والضغائن بين مكونات أمة كانت شعبا  واحدا ثم تحولت إلى شعبين عدوين، وأصبح من المستبعد أن يعيشا متجاورين في  سلم ووئام بعد أن كان من المستبعد أن ينقسما، وصارت السلطة في كل من  الدولتين مدمنة على التغذي على الانقسام، ولم تعد وحدتهما مطروحة بعد أن كان  انقسامها غير مطروح… انقسام الشعب الذي كان يقال أنه مستحيل أصبح انقساما  عائليا … فعائلات واحدة تجزئت، منها في الشمال، ومنها في الجنوب، وتحول  الأمل في اللقاء بين الشعبين إلى مجرد أمل للقاء بين عائلات منقسمة بين  سلطتين…. هذا كله تم بعيدا عن الشعب… فالمسار كله اعتمد على تعاقب التفاوض  ومحاولات التراضي ووقف التنازع بين الزعماء ومن هم وراء الزعماء؛ فما كان  للاحتكام للشعب- مهما كانت تعقيداته وصعوباته ومخاطرة- أن ينتهي إلى مثل هذه  النهاية.

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …