إن ممارسة فعل الكتابة، تعدّ ممارسة إجرائيّة، تحتاج إلى وفرة جملة من الاستعدادات الفكرية والأدبية، تسمو باللغة إلى أفقٍ أرحب، عبر انفتاح لا متناهٍ، فتتجاوز حدود الثبات والجمود، وتسعى لهدم الحدود التقليدية؛ لتفجر حركة الإبداع بلغة نصٍ مغايرٍ تمزق حجب الصمت، وتتطلع إلى كشف المستور وراء الذات وأسرارها.
النظرة المنصفة للكتابة الشعرية المعاصرة تؤكد عدم انصياعها للمحايدة، وبالتالي فهي تَعانقًا بين الذات والآخر، تفاعلًا متأرجحًا بين هدم وبناء، حضور وغياب… هذا ما نحاول ملامسته في نصوص الشاعر الليبي فوزي الشلوي في مجموعته الموسومة بـ(تليقين بفوضى محرابي).
تُعدّ هذه المجموعة من الأعمال الشعرية والنصوص الإبداعية التي تسجل حضورها بمقدار ما يبدو عليه مشهدها اللُّغوي أولاً، ودلالات المعاني ثانياً، إذْ ليس الشاعر بشاعر و”ليس الكاتب بكاتب لأنه اختار التحدث عن بعض أشياء، بل لأنه اختار التحدث عنها بطريقة معينة” كما يقول جان بول سارتر.
يؤثث فوزي الشلوي في قصيدته (تليقين بفوضى محرابي)، التي وسم بها اسم مجموعته الشعرية، يؤثث لتشييد مسكن معرفي حر له مفاهيمه العميقة وطقوسه الخاصة، اعتمادا على أمرَين رئيسَين؛ أولهما: ثنائية التضاد التي شكّلت سياقًا لتناغم الدلالات ، وثانيهما: الاسترجاع والاستباق الزمني الذاكراتي، الذي استقى منه الشاعر استدعاء أحداث وشخصيات أسهمت في بناء القصيدة وخاطت لها حلةّ تلاحمية البنية بها تزدان وتتباهى، إذ ثمة تناص مع نصوص سابقة (روايات وأساطير) وظّف الشلوي بعضًا من آلياته اعتمادًا على خلفيّته النصّية ومخزونه الثقافي.
بينما نقرأ مقابلة في نص (بدويّ حد الثمالة)؛ إذ يصوّر أن حياة البداوة التي يعيشها وطباعه البدوية، لن تتغلب عليها تطبعات التحضر مهما عايشها أو احتفى ببعض ملامحها، لا جدوى مما منحته إياه فنتازيا المدنيّة، إذ إنّ البساطة وحدها تغلب على البدوي، فهو مجبول عليها، يصفها وينمط تراتبيتها بطريقة تخص الشاعر وحده وهو يعبر عن خواطره. هنا نقرأ تعانق التقابل في طقوس شعريّة خاصة، تدثّر أنين الذات وتضمّد جراحها.
اعتمد فوزي الشلوي أن يجعل لرثاء العروبة مكاناً ضمن هذه النصوص القيّمة؛ فقدّم لنا نصًا إبداعيًا موسومًا بـــــ(الفاتحة على روح العرب) تُبرز مفاهيم الشاعر بالمعرفة اللّدنيّة، فتُشكّل بعدًا غرائبيًا (فنتازيًّا) يسبر أغواره التاريخية؛ محمَّلًا بحوار ينطلق من منطقة تسترجع الزمان ولا تحدد المكان.
ثمة مسارات دلالية تحاكي أحداثَ قصة يوسف عليه السلام – تظل مشحونة بدلالات تلك الأحداث في هذا النص، إذ تكمن المفارقة التي تقيمها الذات الكاتبة بين رؤيا (العزيز/ ملك مصر) وتأويلها من قِبل النبي يوسف عليه السلام، وبين حُلُم الذات الكاتبة نفسها. لأغراض تتصل بتصوير واقع يشبه الخيال، والتأكيد على الارتباط الضروري في الحالتين معًا بسوء المعيشة وتمظهراتها الرمزية والتصويرية.
ما ينفك فوزي الشلوي يستدعي نصوصًا قديمة اعتمادا على موروثه الديني، في قصيدة (الجب)، التي تعلن عن ميلاد حلم أدبيّ يختلط فيه الاستيهام بالعلامات اللاواعية ذات الطبيعة المنامية، ويتداخل الواقعي بالمتخيل في صور تشكيلية تبعًا لمساراتها الدلالية التي تخطها في جسم النص. إنه حلم يؤسس النص بكامله، ويشكل منطلقه ونواته في آن واحد. ومن هنا “تأتي الأهمية التي يكتسبها الحلم في توجيه النص وتأطير مكوناته. وإذ إن حضور الذات الحالمة أساس للعملية التفسيرية في الحلم الواقعي، فإن السياق النصي الأدبي يكون ناجزًا ومكتملًا سلفًا، بحيث يصعب في حالة كهذه الغوص في التفاصيل واستنطاق مدلولاتها إلا في حضور الإيضاحات الإضافية” بحسب الكاتب فريد الزاهي. وما حضور(سورة يوسف) في هذا النص إلا إيضاحًا إضافيًا لِلْحُلم المسرود لكن؛ هل يفقد هذا الحلم دلالاته إذا تم التلاحم بالحلم في (النص القرآني/ سورة يوسف)؟.
تظل كل النصوص الحاضرة بين أيدينا؛ مساهمة جادة كُتبت بمساهمة سسيونصّية، اقتصرنا على تقديم قراءة لبعضها، بوصفها نماذجًا عبّرت عن رؤى جديدة، ووظّفت بنية درامية متعددة الأصوات، مكتّفة الرموز الفولوكورية، وأخرى مرتبطة بالبيئة المحلية، ناهيك عن تراتبية السرد الشعري، وإعادة صياغة المساءلة المعرفية بمنظورٍ واعِ أنتجته لغة الشاعر وتجربته الإبداعية.
نبيلة سالم الطاهر أبو بكر