منصة الصباح

قراءة الشخصية

بقلم: عبد الرحمن جماعة

كان يتحدث كثيراً، يحلل ويدقق ويفسر ويتنبأ، يتكلم في السياسة كمحلل استراتيجي، ويفتي في الدين أكثر من الشافعي، بل إنه لم يترك علماً من العلوم أو فناً من الفنون إلا وأدخل أنفه فيه!

لكنني مع ذلك كنت أستمتع بحديثه، وكان هو يجد بغيته فيَّ كمستمع جيد، فعادة الثرثار لا يبحث سوى عن مستمع، ولا يُشترط في هذا المستمع التصديق أو عدمه، المهم أن يتنازل عن أذنيه لفترة من الزمن.

ومع ظهور موضة قراءة الشخصية من خلال خط الكتابة، أو من خلال بصمة الإصبع، أو من خلال لغة الجسد، فإن صديقي هذا لم يتفلسف في أي من هذه الجوانب، ربما لأنه يعرف أنني لا أميل إلى تصديق مثل هذه الهرطقات، وربما لأنه يعرف أنني أحب سماع الجديد، وسريع السأم من التكرار، وربما لأن نرجسيته تأبى عليه أن يتمذهب بمذهب غيره، فقرر أن يسلك طريقاً لم يسلكه أحد من قبله، فقال لي وهو يتكئ بتثاقل: لقد ابتكرتُ طريقة لدراسة الشخصية من خلال عادات السائق وطريقته في قيادة السيارة.

ابتلعت ضحكة كادت أن تنفلت فتفسد عليَّ الاستماع لموضوع شد انتباهي وأثار فضولي.. وقلت له بعد أن أعدت ضبط عضلات وجهي على وضع أكثر جدية: كيف؟!

فقال: اسمع يا سيدي..

إذا رأيت السائق يكثر من الضغط على الفرامل فهو شخص جبان ولا يحب المخاطرة ويكره الدخول في حياة جديدة.

وإذا رأيت السائق يُمسك المقود بكلتا يديه فهو شخص حذر ولا يأمن الناس، وفي الغالب يكون قد تعرض لخيانة أو فقد أحباباً.

وإذا رأيته يُكثر من استعمال المنبه فهو من النوع الذي لا يحب العمل ضمن فريق، ويكره المشاركة في أي شيء، ولا يتأقلم مع الجماعة.

أما الشخص الذي لا يحب استعمال إشارة الاتجاه (الفليتشة) فهو شخص كتوم.

وإذا كان السائق يركن سيارته على مسافة من الرصيف فهو أناني.

وإذا كان يُكثر من النظر خلفه في المرآة فهو من النوع الذي يُعاني من نوستالجيا حادة.

أما كثرة غسل السيارة وتلميعها فهذه نرجسية.

كنتُ في هذه الأثناء في قمة الانتشاء والاستمتاع، أهز رأسي مع كل فقرة طرباً لما يقول، وخشية أن يسكت!.

انتهى الحديث بعد أن عدد لي كل حركات السائقين حركة حركة، إلى درجة أنه لم يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها.

لم أتساءل عن صحة ما يقول بقدر تساؤلي عن الزمن الذي استغرقه في جمع وتأليف كل هذه الترهات.

وفي ختام الحديث كنت أفكر في طريقة ذكية تمنعه من رؤيتي وأنا أركب سيارتي، لأنني أعرف أنه سيصدر عليَّ أحكاماً.

في البداية فكرت أن أقول له بأنني جئتُ من بيتي مشياً، ثم تذكرت أنه رأي مفاتيح السيارة في يدي.

وجدت نفسي مضطراً للبقاء في المقهى إلى أن يذهب هو، وبالفعل ذهب.

ورغم عدم اقتناعي بما قاله، إلا أن العدوى انتقلت لي، فمنذ ذلك الحين وأنا أراقب سائقي السيارات، وأحلل حركاتهم وأدقق في أفعالهم وأقيم تصرفاتهم.

الموضوع تجاوز حب الاطلاع، وفضول المعرفة، ووصل إلى درجة الإدمان.

لكنني مع ذلك كنتُ أستمتع بهذه اللعبة، رغم أنني أدعو على صديقي الذي أوقعني فيها، ففي كل مرة أجد نفسي منغمساً فيها أقول: الله لا تربحك يا فلان!

إلتقيت بصديقي هذا بعد فترة، رأيته في زحام أحد الأسواق، أسرعت نحوه، أمسكت به من كتفه وقلت: تعاااال هنا! عندي مشكلة حلها لي وأنا مسامحك في الورطة اللي حطيتني فيها!

قال بكل هدوء: وما هي؟

قلتُ: جميع حركات السائقين استطعت أن أحللها وأقيمها، إلى درجة يمكنني أن أعرف اسم إبن خالة السائق من خلال حكه لأنفه، ورقم حذائه من خلال سرعته، لكن شيئاً واحداً لم أجد له تفسيراً.

قال ببرود مستفز: وما هو؟

قلت: السائق الذي يُزمر خلفك في الزحام؟!

قال: ولا أنا.. ثم ذهب وتركني!.

شاهد أيضاً

المجلس الأعلى للقضاء ينفي فصل إدارة القضايا عن الهيئات القضائية

فند المجلس الأعلى للقضاء مايتداول عبر بعض صفحات التواصل الاجتماعي من فصل إدارة القضايا عن …