منصة الصباح

في مديحِ الخريف

زايد..ناقص

جمعة بوكليب

علاقتي الشخصية بالفصولِ الأربعة مُميزةٌ، ولا أزعُمُ أنّها فريدة. تميّزها نابعٌ من كونها علاقة متواصلة ومتجددة، عبر الزمن، بين مُتذوق للفنّ والجمال، ومأخوذ بفتنة وغواية الألوان، وصالةِ عروض “غاليري”، مخصصة للمعارض الفنية، اشتهرت بتقديم معرضٍ فنّي جديد، كل ثلاثة أشهر، تخصصه لعرض لوحات فنان تشكيلي واحد، أكثر وأقدم شهرة منها، اسمه الطبيعة.

العلاقةُ، في هذا السياق تحديداً، ذوقيةٌ جماليةٌ فنّيةٌ، نابعةٌ، في الأساس والهدف، من حاجتي الشخصية المُلحّة إلى تغذية الروح بجرعات متواصلة ومتنوّعة من موائد الفنّ ومباهجه وأطايبه، وتحولاته المُدهشة، تمكنني من مقاومة هجمات القبح الظلامية المباغتة، والزائدة عن الحدّ في هذا الزمن، وتمدّني بطاقة وحيوية تعمّق من إيماني بضرورة انتصار الجمال والحبّ والخير، كي تزداد قوة صمودي في خنادق جبهة الدفاع عن الأمل، حتى لا تسقط فجأة، تحت سنابكِ خيلِ جيش الظلاميين، وتترمل الحياة.

العلاقةُ تلك، إذاً، أقربُ ما تكونُ إلى علاقةٍ خاصة جداً، تأسست قديماً على الحبّ، وشدّة حاجة الوجدان والعقل الإنساني إلى التمتع بإبداعات الفنّ، وتوسلاته في معبد الجمال. ونشأتْ مبكراً، وتعمّقت بمرور الزمن، بين مبدعٍ لا يتوقف عن الإبداع، وعاشقٍ، يلعب دور المتلقي، لا يتوقف عن الدهشة، ولا يكف عن الارتواء من نهر الحبّ. وتجدد تلك العلاقة باستمرار نابعٌ من تجدد نهر الحياة المتواصل.

العلاقة، إلى حدّ ما، لا تختلف كثيراً عما نلاحظه في لوحات الفنان – الطبيعة من علاقة لا تكاد تخلو منها لوحة، بين الضوء والظل. أي حرص الفنان الدائم على رصد ما يتألق بحيوية في تموجات الضوء: شدةً وخُفوتاً، وانعكاسها متجلّية، كثافةً ونعومةً، في حركة وتلونات الظلال، وامتداد تأثيرها وقوة نفوذها، على أرواح الكائنات.

في فصل الصيفِ يفرضُ الأزرقُ، بمختلف حالاته وتحولاته، حضوره على اللوحات في تلك الصالة، مستأثراً لوحده بالاهتمام. الصيفُ، كما نعرف، فصلٌ مستبدٌ وأنانيٌ. لا يتسامحُ مع غيره، ويضُنُّ على ألوان  الفصول الأخرى مشاركته، ولو قليلاً، السيطرة والسيادة:  أزرقٌ يتموج مغروراً، مستحوذا بأنانية على انفساح صحو السماء ورحابة بهجة البحر. مزاجُه لا يعرف التوسط: شدّة الضوء مقابل كثافة الظلال. حرارة شمس النهار الخانقة مقابل رقة نسيم المساء: يأتي كي يفكَّ عن النفس خناقها، ويعيد إليها، تدريجياً، رونقها وأناقتها وبهجتها وحيوتها وألقها.

الخريفُ مهرجانُ الألوانِ. يجيءُ ليفتحَ أمامها ما أغلق الصيفُ عُنوةً من أبواب، لتظهر وتتألق وتزهو، بعد معاناة الحصار، وتتشارك طوعاً المساحات في لوحات صالة العرض.

الخريفُ فصلٌ ديمقراطيٌ. التنوعُ تاجُ وحدته. تلعب فيه غوايةُ الألوان، بتنوعاتها وتجلياتها، دورَ بطولة جماعية في اللوحات. وكأن الفنان – الطبيعة، قد أُرهقَ من سيطرة ونفوذ واستبداد اللون الواحد، واستنفد كل ما فيه من إمكانيات واحتمالات، وأحتاج إلى شيء من راحة وبهجة، فالتجأ فرحاً كطفل، يلعبُ بما في تنوّع  ورق الشجر من موسيقى الالوان، وما في ملمسها من طراوة، قبل أن يطالها اليبسُ، وتسقط على الأرض.هل لذلك السبب اخترعت الطبيعة الخريف؟

الخريفُ، منذ قديم الزمن، وكما حرص الفنان الفريد – الطبيعة على تجسيده في لوحاته،  فصلُ يأتي ليخرج الشجر عن صمته، ويصير فصيحاً بلا لسان. الأخضرً الصامت في أوراقه ضجراً يترقب حضور فصل الخريف، لينزع ثوبه الوحيد، ويحتفي بارتداء أثواب لونية مختلفة وفرحة. تتدرج في الحُمرة، فتصير بلون الشفق في الغروب، أو لدى اشراقة الشمس في الصباح. ألوان مزدهية فرحة، لا ترى مثيلاً لها أو شبيهاً، إلا في زهو وفرح ألوان ملابس أطفال في يوم عيد.

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …