نوتــــة
بقلم / د. نور الدين سعد
استاذ الفنون المرئية في الجامعات المرئية
كيف يصنع بليغ الرهافة في الميلودي ؟
لوحة بيضاء في البداية … بيضاء تماما، غير ناصعة… يبدأ يخط على الجانب الأيسر حتى يمتلئ تماما بالخربشات، ثم من الجهة اليمنى، يكتب دا دا ري دادا، دارا دارا دارا، دو سي لا سي لا ….لا ماجور، سي صول فا فا.. ثم يتوقف ليستمع برهافة إلى «رافي شانکار يدندن بلسانه»: تا تا تا، تم تم تا … ثم يسحب نفسا من سيجاره، دا دا دا، ثم يمسح الجانب الأيسر من اللوحة بشكل منظم، جزء ممسوح وجزء ممتلئ، جزء ممسوح وآخر ممتلئ، ثم يتذكر بعضا من ألحانه للسيدة وردة: وعملت إيه فينا السنين ؟؟ … يسحب بعضا من هيكل اللحن، ويضعه في فراغات اللوحة من الجانب الأيسر، خربشة مع نوتة، خربشة مع نوتة، ثم تبدأ الخربشة في الاضمحلال إلى أن تختفي خلف النوتة، وفي الجانب الأيمن يكتب كلمات لا تهمه بقدر أنغامها: (يااااااه، عل ضاع منا يا عيني والزمن أخذو ورماه، يااااه ع اللي كان بينك وبيني) …. دارا ديرا دارا دا دا ونسينا في درب الحياة…
وهكذا … يتوقف عند الفصل الأول الذي لم يكتمل، ثم يعود لخربشات أخرى بدندنات حنجرته ولسانه، ومن يدري يغرق قليلا مع البيتلز، وباخ وبوب مارلي، ثم يعود لنغماته المحجوبة خلف أنسجة عقله، يتنفس قليلا، ثم يفتح نافذة غرفته، تبدو القاهرة في الليل بنجوم قريبة، يحكي معها، يعود للوحته، يتذكر الست: (يا حبيبي الليل وسماه ونجوموا وقمرو…وسهرو… وأنت وأنا، يا حبيبي أنا)… و(دقت الساعات تصحي الليل، …عايزنا نرجع زي زمان؟ قل للزمان ارجع يا زمااااان)
هنا لعبة الماجور تنجلي تماما، في سكون يعرف بليغ أوانه بالضبط:
(تفيد بأيه يا ندم)…. ثم يتشخصن اللحن البليغي: ويتمظهر الأسلوب، وتظهر الجوهرة التي عبر عنها المايسترو محمد عبدالوهاب كاهن الموسيقى العربية في وصفه الموسيقى بليغ، هنا في هذه المفاصل اللحنية، من فات الميعاد، وكذا أنساك، وأغان أخرى كثيرة، يتوقف عندها وعند كلماتها من مثل: (سنين ومرت زي الثواني).. هنا يتوجب عليه خلق مغزى لحني مغلق تماما، حتى لا يتكرر عند أحد، أو يكون وقف عليه، بحيث لا يعاد عند أحد بشكل آخر، وهكذا …(صوتك نظراتك همساتك، شيء مش معقول )… (الدنيا زهور على طول وشموع على طول).. (خذ من عمري كله، الا ثوان أشوفك فيها).. الحقيقة أنه هنا بالذات يصنع ألحانه من نسيج الكلمة الثقيلة العيار، ليقول لموسيقى العالم: ((نحن هنا)).