محمد الهادي الجزيري
هو كالمراهق الذي يسرّ بوعد فتاة الحي ..، ولم يزل شقيّا يهوى اللعب بكلّ شيء وإن كان الكلمات والمعاني ..، ما زال يفرح كطفل كلّما نجح في إنهاء أقصوصته ” بقفلة ” مناسبة ورأى الدهشة وعلامات الاستغراب على وجه قارئه الافتراضي ..، ما يزال ديدنه الوصول بالنصّ القصصي إلى مفاجأة لم تكن في بال أحد ..، ذلك هو حسن البقّالي في ورشته المتكوّنة من كلمات ولا شيء سوى الكلمات ..، ها هو يخرج علينا منها بكتاب جديد عنوانه ” هو الذي رأى ” ..وها إنّي أقرأ ما خطّه لي القاص الماهر المحتال ..الجميل…………..
أحبّ كلّ من يؤمن بتأثير جناح الفراشة في أحداث العالم الكبرى..كالبراكين والزلازل والعواصف ..فلا شيء موجود بالصدفة ..ولكلّ شيء سبب..، وقد وجدت ضالتي في ما كتبه القاص المغربي من بداية السرد..، ففي ” أثر الفراشة ” وجدت نفسي وجلّ أفكاري ..، أعتقد أنّ النصّ تمّ حين قال ” اكتفى بنظرة عجلى ” ..والبقية هوامش له ..، فطريقة تفكيره وإيغاله نحو الأقاصي ومن أشعل الحريق في فؤاد شرطية ..إلخ ، كلّ هذا سببه النظرة العجلى ..فيا ليتنا نستطيع محاكمة الرجل الذي تسبب في حادث سير..حين رفع رمشه إلى وجه الشرطية..
” لم ينبس بحرف
لم يُومئ برأسه، أو يرفع القبعة للريح التي مرّت بهدوء،
كأيّ غريب لا ينوي شرّا بأحد ………..
اكتفى بنظرة عجلى
وربّما فكّر في أنّ الحياة مبتذلة بشكل لا يطاق،
وأنّ الفنّ ضرورة
وتابع طريقه باتجاه الأقاصي.
فكيف لي أن أعلم يقينا
أنّه من أشعل الحريق
في قلب شرطية المرور،
التي تسببت ربكتها في حادث سير؟ ”
” مجرد أقواس ” … هذه القصة القصيرة جدّا ..فجّر القاص فيها أفكاره وعقيدته ….
فهي لحظة هامة ..مسكها الكاتب باللغة البسيطة الشيقة…لحظة تحوّل الإنسان إلى بدن فارغ من كلّ حسّ ..وممتلئ بالماء ..، تنتفي فيها كلّ أنواع الضغينة والكراهية والحقد بين السمكة الجائعة المدفوعة بيولوجيا للنهش والابتلاع والأكل …….وبين المهاجر الذي انقلبت سفينته وصار بلا اسم ولا معنى ..أمسى في تلك اللحظة عنوانا للطبيعة العمياء الصماء ..متاحا للتحوّل إلى شيء آخر ..إلى السمكة مثلا ..أو أي شيء آخر ..، أصبح أجوف قابلا لأي شكل فلا كره ولا ( الأنا ) المتورمة ..لا شيء سوى الطبيعة في ورشتها العظيمة :
” هي اللحظة سمكة جائعة ، إزاء جسد يتهاوى..، وثمّة نداء للطبيعة لا يردّ..”
خفّة الدم التي يتمّيز بها حسن البقالي ..تظهر في عدّة قصص ..ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر..قصّة ” كاتب حاذق ” أو قصة ” يحدثُ أن تتعقّد الأمور قليلا ” ..وصراحة وجدتني غارقا في ضحك مجنون بعد أن قرأت القصة ..، ففيها لعب على اللغة ..إذ تحوّلت مسألة أن تبيض دجاجة في حقل مجاور قضية الشأن العام ..فبدل أن يعطي البيضة لمعطي …قال له كلاما غير مناسب فتحوّل الشجار إلى معركة فيها قتلى ودماء وسيّارات إسعاف ودرك ..، كلّ هذا مكتوب في فقرة أقصر من تعليقي عليها ..وهي براعة وروعة وإبداع …….
نفس المشهد المنسوخ في المغرب أو العراق أو الخليج العربي ..هو بحذافيره وبعينيه يطلّ علينا من قصّة قصيرة بعنوان ” حروب لا تنتهي ” ..وفيها يحدّثنا القاص عن حرب لا هوادة فيها ولا راحة..إنّها معركة الكتّاب فيما بينهم وصراعهم مع بعضهم..، والحقيقة نقل لنا حسن البقّالي المشهد المحلّي بكلّ حماقاته فوجدنا أنفسنا فيه ..، يبدأ الأقصوصة بتحوّل كلّ الناس إلى كتّاب وشعراء وروائيين ..وبالتالي كما يقول الكاتب ” ولم يعد أحد يقرأ لأحد ” ويتطوّر الصراع المحموم ( كما يحصل في كلّ مكان ) إلى أنّ كلّ كاتب منهم يصير مكتفيا بذاته وغريما لكلّ من عاداه ..، فتمسي الأقلام مسدّسات والأوراق خرائط حروب ..، لقد نقل إلينا واقعنا العربي المأزوم المتعفّن …يقول في خاتمة الأقصوصة :
” وبعد زمن غير يسير
نسي الجميع الدواعي الأصلية لحروبهم
نسوا الكتابة تماما
وصاروا جنودا ومرتزقة “