منصة الصباح

في التواضع كقيمةٍ، والنسيان كملاذ.

محمد الهادي الجزيري

كلّ الأشياء تمرُّ…

الفرح والحزن، المصائب والأعراس والأماني والآمال، كلّ ما تعيشهُ النّفس من آلام وأشجان، كلّ الأشياء والأحاسيس تمرّ وتقبع في ذاكرتنا، لنلوذ بها حين نملّ جفاف الواقع، ولتقسو علينا عندما ترغبُ هي في ذلك. إنّ هذه الذّاكرة هي كلّ ما نملك، وقد أتجرّأ على قول إنّها كلّ ما يمكننا أن نؤكّد أنّه حقيقيّ، ولكنّها هي أيضًا تتلاشى كما يتلاشى الوجود كلّه، فتفقد الكثير في ظلّ الأحداث الجمّة ومراحل حياتنا المتعاقبة. إنّ قَدرنا هو النسيان، على الرّغم من أنّنا نطمح إلى ألّا نَنسى وألّا نُنسى، ولكنّي أظنّ أنّ الحياة تتجدّد عند هذه النّقطة تحديدًا، إنّها تقدّمُ جديدها على أنقاضِ ما يزول، هكذا تفتكّ مساحات أُخرى لما سوف يأتي، على حساب ما كان وما هو كائن بالفعل، ويوجد هنا ما يعزّينا وما يدفعنا إلى التشبّث بالأمل، فهذه المساحات الّتي يحتلُّها الجديد على حساب ما مضى تشملنا، نحن كائنات متجدّدة، نَنسى لنتجدّد ونتطوّر ونكتشف الحياة من زوايا أُخرى، ولولا هذه القدرة على النسيان لجُنّ الجميع، وضعنا في طرق الحياة المثيرة والصّعبة والتّافهة.

خُذ مثلًا على ما أقول…

ماذا تذكر من حياتك؟

من المؤّكد أنّك لا تذكر إلّا القليل من المحطّات الّتي تعتبرها هامّة… ولا شيء آخر… تذكر تاريخ ميلادك… ولكن من سيذكره بعد تلبّسك بالتّراب واحتواء حفرة لرفاتك؟ لا أحد سوى زوجك أو إخوتك وربّما أحد الأصدقاء… أمّا البقيّة فلا يمكنهم ذلك، فلهم ما يتذكّرونه من عناوين ومواعيد مهمّة ومواضيع شائكة ذات مردود ماديّ أو معنويّ… ثمّ ما تاريخ ميلادك بالنّسبة لما يعتمل في العالم؟ هل هو تاريخ الثورة البلشفية أم عيد استقلال بلد مهمّ مثلًا؟، هو لا هذا ولا ذاك… مجرّد رقم سيركن فور ما ترتاح.. ألم أقل في ما سبق في إحدى قصائدي: وحدك جئت.. ووحدك تمحي في الصّمت..، هكذا نحن.. نكابر ونكذب على أنفسنا.. وندّعي أنّنا مركز الكون.. ومنّا تبدأ الحكمة والنبوغ.. ولسنا سوى أشياء وأرقام وتفاصيل حيوات صغيرة لكي لا أقول تافهة.. وزائلة كالأشياء كلّها….

ما أردت قوله من خلال هذه المقالة هو أنّ التواضع هو أهمّ ما قد نبلغه من قيمٍ طيلة حياتنا الفانية، فكلّ من كانوا هنا ماتوا، اندثروا، أمسوا أحاديث يستهلك بها النّاس أوقات فراغهم.. فمثلًا أين المتبنّي شاغل الناس ومالئ الدنيا؟ أين ثورة نفسه على الظلم والغبن وسفره في الصّحاري والجبال والوديان؟ أين :وعذلت أهل العشق حتّى ذقته /وعجبت كيف يموت من لم يعشق؟،

أين العظماء الذين بسطوا لنا جلودهم في الطريق لنمشي عليها.. في الخطّ السويّ؟ أين الفلاسفة الأفذاذ.. وأين الشعراء الكبار؟ أين هم؟ لذلك كتبت ما كتبت.. لأدعو النّاس، كلّ النّاس، إلى التّواضع ونحن نعيش هذه المحاولات المتدفقة من عند الجميع.. فالكل يريد تقديم الجديد النافع.. ولكن أغلب المحاولات تبوء بالفشل..، ونحن نجتاز هذه الحالة الفريدة من نوعها.. في الفوضى والعبث والادّعاء واللّاشيء..، الكل يصيح ويخطب ويندّد ولا أحد ينصت أو ينفذ ما يقال.. الكلّ يريد النهوض بالمجتمع بمقولات عليها طابع الجدّة.. وفيها الكثير من القدامة.. دون أن ينظر إلى ذاته في مرآة النفس.. ودون أن يتواضع قليلًا… أو أن يترك الأمر لله وللقدر والشعب الّذي قال “الشعب يريد” على كل.. علينا أن نرضى بما قدر الله لنا.. وما شاءه الحظ والقدر لنا.. ،لا بد أن نفهم أنّ حياتنا زائلة وفانية.. وأن نقنع دائمًا بالموجود وأن نطمح للأحسن والأنبل..، فذاك هو الإنسان.. يولد.. ويحيا ما شاءت له ظروف الحياة.. ثمّ يموت.. ويترك مكانه لغيره… تلك هي الحياة…

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …