حـديـث الثـلاثـاء
يرفع الطفل عقيرته في التلقين الجماعي (….. وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد )
لم يكن يعرف ما هو المسد، لكنه كان يتخيل ــ بعقله الطفولي ــ تلك المرأة الشرسة المخيفة، التي تخرج من بيتها كل يوم لتجمع الحطب والأشواك البرية، لتلقيها في طريق النبي الكريم، تسد عليه المنافذ إمعاناً في إيذائه، ومحاولة لمنعه من مواصلة تبليغ الدعوة الإلهية.
تختلط القصة في ذاكرة الطفولة مع الخرافات الشعبية التي تُروى عن (عجوز القائلة) وما تفعله مع الأطفال المخالفين لتنبيهات أهلهم، وهم يلعبون خارج البيت في أيام الصيف الحارق
تقترب السيارة أكثر من البيت العتيق، ويتواصل تداعي الصور، يرى أبا جهل ـــ كما صوره معلم مادة الدين في خامسة ابتدائي ـــ رجلا ضخم الجثة، ترتفع قامته كجبل، وهو يغرى سفهاء مكة بالتحرش بالرسول الكريم، ويعرض أتباعه من المستضعفين لأهوال العذاب.
يخرج من تأملاته عند وقوف السيارة أمام المبنى الضخم و يسأل:
ـــ هل وصلنا ؟
يأتيه الجواب من مسؤول الرحلة
ـــ نعم، نحن هنا في البيت الحرام وقد وصلنا الفندق.
جال ببصره في المكان، قال في سره ….
ـــ هذا فندق خمس نجوم ! عاد يسأل
ـــ هل نحن حقا في البيت العتيق ؟
تأتيه الإجابة القاطعة
ـــ إن أول بيت وضع للناس أمامك الآن.
فرغ سريعا من وضع الحقائب في الفندق، وأسرع لمقابلة حلمه القديم، تداعت الصور أمامه مرة أخرى، وعاد بالذاكرة أربعة عشر قرناً، ليرى البيت العتيق، والشوارع المتربة المحيطة به من كل جانب تماماً كما كان يتخيله، هنا كان الرسول الكريم يخطو خطواته الأولى في سبيل الدعوة، يجمع أصحابه، يلقنهم أخر ما نزل عليه من آيات، يتجه للمسجد ليصلي كما أمره ربه، وليس كما اعتاد قومه، يستنكر ذلك أبو جهل وأبو لهب و أبو سفيان وغيرهم، يمر على المستضعفين، يقوي عزيمتهم على تحمل المشاق، ويبشرهم بقرب الخلاص و نعم الجزاء.
يخرج إلى معتكفه في الغار، يتأمل وينتظر كلمات جديدة، فالكلمة وحدها القادرة على تغيير وجه الحياة.
عاد إلى نفسه، وقف وسط الساحة الرخامية الكبيرة المرصوفة بعناية و جمال، تأمل المكان، هنا أمام البيت العتيق كانت دار الندوة، حيث كان اجتماع زعماء قريش لتقرير مصيرها في الحرب والسلم، لكنها غدت فندقاً يسمى دار الانتركنتننتال، وهناك كان متجر أبي بكر، لكنه قد تحول إلى محل لبيع دجاج كنتاكي بالخلطة السرية، وفي هذا الطرف من الوادي كانت شعب أبي طالب التي اجبر المسلمون على الخروج إليها عند المقاطعة الشهيرة، لكنها أضحت اليوم نفق السيارات السريع.
رجع إلى الفندق تغمره الحيرة، لقد لحق الخراب ذاكرته، فلم يستقم في وعيه أو في حلمه القديم أن يكون البيت العتيق قد أصبح مدينة عصرية.