منصة الصباح

في أثر الحنين

زايد…ناقص

جمعة بوكليب

 

 

لأ أعرفُ كيف استهواني الحنينُ فجأةً، وأنا أتهيأ لكتابة روايتي الأولى ” نهاراتٌ لندنية.”. وكأنّ مطراً هطل من غيمة عابرة، في طريقها إلى بَرّ بعيد. فسرتُ وراءه تلقائياً، مقتفياً أثره. كنتُ أريدُ لقاءه. أن أقف أمامه وجهاً لوجه. أتامل تفاصيل ملامحه، كي لا يضيع منّي، وكأنني أتعرّفُ على شخص غريب، قابلني صدفةً في طريق نائية. شيءٌ ما أحاطَ بي وتلبّسني. ولم أكن على علم إلى أين سيقودني. ولا أملكُ خريطةً تعييني على السير في طريق لم تطرقه قدماي من قبل. وكان عليَّ السير فيه وحيداً، باحثاً عن ذكرى هنا، ورائحة هناك. عن مشاعر كامنة في القلب، وتعتمل في الروح. كان كل همّي أن أجلس إلى مكتبي، وأكتب رواية. فلماذا، من دون كل الأشياء الأخرى في دنيا الله الواسعة، استقطبني الحنينُ، وجعلني أقتفي أثره؟

حين كتبتُ “حكاياتٌ من البرّ الانجليزي”، كان هدفي أن أصفّي حسابي مع الغُربة، في كافة تجلياتها ومنعطفاتها. لكنّي، وهذه حقيقة، لم أكن في كل حياتي شغوفاً بالحساب، ولا أعرفُ كيف ستتم تلك المحاسبة الموعودة.  ومن سيحاسب من؟ وأي شكل ستأخذ، وفي أي منحنى من الطريق ستسير؟

لذلك، تركتُ ايقاعي الداخلي يقودني نحو الهدف. وكان الهدف مراوغاً مثل الغربة. تضيء من بعيد متوهجة، لكنها كلما أقتربت منها تقلص الضوء، وعتمت دروبها وتشابكت. البداية كانت شبه معروفة لي. أما النهاية فكانت، مثل الغربة، مفتوحة على كل الاحتمالات.  كنتُ على ادراك بأنني في حالة بحث عن وطن أعرف تفاصيله، وأراه يكبر في عقلي وفي روحي يوماً بعد آخر، ولا أجد له أثراً في واقعي الفعلي. كانتُ الكتابة حواراً جريئاً، وفي ذات الوقت شديد العطف والقسوة. وشبيه بمعركة بلا وقت للراحة، حتى في ساعات النوم. قد تتوقف الكتابة على الورق، لكنها لا تتوقف في عقلي ووجداني. وكنتُ أخاف أن أضيّع ما عثرت عليه من أثر في الطريق، تركهُ الحنينُ وراءه. في تلك اللحظات الصعبة، ظهرتْ حسيبة فجأة فأربكتني. كانت أفصحُ منّي لساناً. وأصفى منّي ذهناً. وتعرفُ ماذا تريد، والطرق التي تقود نحوه. وعثرتْ على ما تريده، قبل أن ألتقيها. وطلبتْ منّي مرافقتها. فتوجستُ خوفاً. وعرفتُ، عندئذ ولحظياً، أن الحنينَ الذي أبحثُ عنه، ليس الحنينُ الذي عثرتْ عليه حسيبة. كنّا، في حقيقة الأمر، نبحثُ عن شيئين مختلفين. لذلك، لا بُدّ أن يكون لكل منّا طريقه. كانت هي تسيرُ باتجاه مستقبل تراه واضحاً في قلبها وعقلها، وتريده. وكنتُ أنا أسيرُ في طريق معاكس، بحثاً عنّي. حسيبةُ كانت امرأةً غريبةً مثلي. في بلادِ غُربة جمعتنا. لكنّها، على العكس منّي، كانت تعرفُ جيداً الفرقَ بين حنين يرى المستقبل، وحنين مشدود إلى ماضٍ. وأختارتْ ما تريد. في تلك اللحظة، تحديداً، كُتبَ علينا الفراق.

الفراقُ أمرٌ طبيعي في بلاد الغربة. أن تلتقي بأشخاص من كل الالوان، ثم ترحل عنهم أو يرحلون عنك. والحنينُ، حين تَجِدُّ السيرَ في أثره، ربما يمرّ بك عليهم. فتشمُّ روائح أجسادهم. وتتنفسُ هواء حكاياتهم. وقد ترتسم ابتسامة رضا على شفتيك، أو تكسي ملامح وجهك تكشيرةُ غضب أو ربما ندم. لكنّكَ تعيد وضع زوّادتك على ظهرك، وتستأنفُ السيرَ والكتابة.

ولم يكن يضيرني أن تسير حسيبة في طريق معاكس. ذلك أن الحياة في بلد ديمقراطي تجعلكَ، غصباً عنك، تعترف بحق الآخرين في الاختلاف، حتى وإن ولدتَ وكبرتَ في بلاد تتنفس ثقافة القطيع، ولا تقبلُ بالتميّز الفردي، فما بالك الاختلاف!

شاهد أيضاً

(عن ايام الطباعة نار ورصاص واورام )

زكريا العنقودي انا ولد مطبعة وكبرت من عمري 15 العام بين الحبر والاوراق ، وللعلم …