خلود الفلاح
بعد الكارثة التي حلت بمدينة درنة، من جرّاء العاصفة “دانيال”، وانهيار سدين فيها، بات هناك قلق وخوف بين أوساط الليبيين من انهيار السدود الأخرى في البلاد. خاصة في ظل انعدام الصيانة الدورية والنزاع المسلح، والفساد.
تشير الأمم المتحدة في دراسة بعنوان “تغير المناخ يهدد التنمية الاقتصادية والاستدامة في ليبيا” إلى أن تغير المناخ هو واقع اليوم ويؤثر على المجتمعات في جميع أنحاء العالم، لكن الناس الذين يعيشون في ظروف هشة مثل ليبيا يشعرون بالتأثيرات بشدة. ويؤدي اقتران تغير المناخ بالصراع إلى تفاقم أوجه عدم المساواة ويدفع الناس إلى الخروج من ديارهم ويعرقل إنتاج الأغذية وإمداداتها ويزيد من حدة الأمراض وسوء التغذية ويضعف خدمات الرعاية الصحية.”
حول أزمة المناخ والسدود ومخاوف الليبيين نتحاور مع الأستاذ محمد أبو القاسم محجوب، وهو مهندس مدني وباحث أكاديمي في مجال حفظ وإدارة التربة والمياه، وناشط في مجال التغير المناخي. وشارك في الفترة الماضية ضمن الوفد الليبي في قمة المناخ للأطراف في دبي COP28 .
ـ ليبيا تعد من أكثر دول العالم تضررا من آثار التغير المناخي والاحترار العالمي. ما هي أسباب التغير المناخي الذي تعاني منه ليبيا؟
ـ مع تزايد الاهتمام العالمي بالأثر البيئي للتغير المناخي، تبرز ليبيا كنموذج واضح للتحديات الناجمة عن هذه القضية. تقع ليبيا في منطقة تعاني أصلاً من شح المياه والتصحر، والآن تواجه تسارعاً في التغيرات المناخية سواء كانت ذات أصول عالمية أو محلية. هذه التحولات ليست مجرد سيناريوهات نظرية؛ بل هي حقيقة يشهدها الشعب الليبي يومياً في حياته.
يشكل الاحترار العالمي تهديداً مباشراً لليبيا، حيث أن الزيادة الحادة في درجات الحرارة تفوق المتوسط العالمي، مما يؤدي إلى تأزيم مشكلة ندرة المياه وتفاقم ظاهرة التصحر. العوامل الأساسية لهذه الظاهرة تكمن في الاستخدام المفرط للتصنيع وحرق الوقود الأحفوري على مستوى العالم، مما يجعل ليبيا تواجه تداعيات لمشكلات عالمية لم تكن مساهماً رئيسياً فيها.
علاوة على ذلك، تساهم الزيادة في تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، الناتجة عن انبعاثات الكربون من الصناعات والنقل، في التأثير السلبي على المناخ الليبي. هذه الغازات تعمل على تغيير الأنماط الطقسية الطبيعية، مما ينجم عنه جفاف متكرر وشديد.
من جانب آخر، يتفاقم التصحر في ليبيا بسبب ضعف إدارة الموارد الطبيعية والزراعية المحلية، مما يؤدي إلى فقدان الغطاء النباتي لقدرته على تثبيت التربة وامتصاص الكربون بكفاءة، مسهماً في هذا التدهور البيئي ونضوب الموارد المائية. بالإضافة إلى ذلك، تزيد النزاعات وعدم الاستقرار السياسي من تعقيد جهود مواجهة التغير المناخي في ليبيا، حيث تُعطى الأولوية غالباً للقضايا الأمنية على حساب الاستدامة البيئية. هذه الأوضاع تجعل من الصعب تنفيذ السياسات والتدابير اللازمة لتقليل الأثر البيئي والتكيف مع التغييرات المناخية الجارية.
ـ برأيك، ما هي الخطط التي يمكنها التخفيف من هذه التغيرات وعواقبها؟
ـ التحدي الذي يطرحه التغير المناخي على ليبيا يعد من أكبر العقبات التي تواجه البلاد في القرن الحادي والعشرين، حيث يستلزم حلاً شاملاً وتعاوناً مؤسسياً متكاملاً يتجاوز الإجراءات العرضية أو الحلول السطحية. على الحكومة الليبية أن تتبنى نهجاً استراتيجياً يتسم بالشمولية والفعالية، يرتكز على تحسين السياسات العامة والأنظمة المعمول بها ويشمل إعادة هيكلة الهياكل التنظيمية بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية في مواجهة هذه الأزمة. ينبغي تطوير برامج تعليمية وتوعية بيئية تستهدف جميع فئات المجتمع، وتسهيل الوصول إلى المعلومات والموارد التي تمكن المواطنين من المشاركة الفعالة في جهود التخفيف من التغير المناخي والتكيف معه، مع التأكيد على أهمية تأسيس بنية تحتية متينة ومرنة قادرة على مواجهة الأحداث المناخية القصوى، ودعم البحث العلمي والتطوير لتحقيق تقدم مستدام في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة الحديثة، وتعزيز القدرات البشرية والمؤسساتية لتحقيق التكامل والتناغم بين مختلف القطاعات والسياسات البيئية، والعمل على توظيف التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة كركائز أساسية في النموذج الاقتصادي الجديد للبلاد.
من الضروري أن تضع ليبيا استراتيجية وطنية تتسم بالمرونة والديناميكية للتكيف مع التغيرات المناخية والاستفادة من الفرص المتاحة لتحقيق التنمية المستدامة. يجب أن تشمل هذه الاستراتيجية تحديث السياسات والتشريعات الرامية إلى حماية البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية، بما في ذلك تطوير قطاع الطاقة بأساليب تحترم التوازن البيئي وتدعم الاقتصاد الوطني، مثل تعزيز استخدام الطاقة المتجددة وتقنيات كفاءة الطاقة. تحتاج البلاد أيضاً إلى تعزيز التعاون الدولي وبناء شراكات مع المنظمات العالمية والإقليمية لتبادل الخبرات وجذب الاستثمارات والاستفادة من المساعدات التقنية والمالية. يتطلب ذلك أيضاً تشجيع القطاع الخاص والمجتمع المدني على المشاركة في هذه الجهود من خلال توفير الحوافز وإزالة العقبات البيروقراطية.
في إطار تفعيل هذه الاستراتيجية، يمكن لليبيا أن تضع في الاعتبار الخطوات التالية:
تقييم الضعف: إجراء تقييمات منتظمة للضعف الوطني أمام التغير المناخي، لتحديد المناطق والقطاعات الأكثر تأثرًا وبناء خطط للتكيف معها.
تعزيز القدرات: بناء القدرات المحلية ورفع مستوى الوعي بقضايا التغير المناخي من خلال التعليم والتدريب.
تحديث البنية التحتية: تطوير بنية تحتية مستدامة ومقاومة للأحداث المناخية القصوى، مثل مشاريع تحلية المياه وأنظمة الري المحسنة.
الاستثمار في الطاقة المتجددة: تنويع مصادر الطاقة بالاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي يمكن أن تقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
تحسين إدارة الموارد الطبيعية: تطبيق ممارسات إدارة مستدامة للموارد الطبيعية، مثل الأراضي الزراعية والمياه، لتقليل التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية.
دعم البحث والابتكار: تشجيع البحث العلمي في مجالات التكنولوجيا البيئية والممارسات الزراعية المبتكرة التي تتلاءم مع الظروف المناخية المتغيرة.
تحسين الإدارة البيئية: تطوير سياسات وبرامج للحفاظ على التنوع البيولوجي وتقليل التلوث.
المشاركة المجتمعية: تعزيز المشاركة المدنية والمجتمعية في صناعة القرار البيئي، وتمكين المجتمعات المحلية من المساهمة في تنفيذ الاستراتيجيات.
التكيف مع التغيرات: تطوير خطط للتكيف مع التغير المناخي، تشمل مشاريع لحماية السواحل وإعادة تأهيل المناطق الجافة ومكافحة التصحر.
التعاون الإقليمي والدولي: العمل بشكل وثيق مع المجتمع الدولي لتبادل المعرفة والحصول على الدعم في مجالات مثل التمويل، التكنولوجيا، وبناء القدرات.
من المهم أن تكون الاستراتيجية الوطنية للتغير المناخي في ليبيا مرنة بما يكفي للتكيف مع الظروف المتغيرة والمستجدات العلمية، وأن تكون قادرة على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة. يجب أن تشمل أيضًا آليات للمراقبة والتقييم المستمر لقياس الأداء وتعديل السياسات والبرامج وفقًا للنتائج والتجارب العالمية.
ـ هل سد “جازا” هو أقرب سد للانهيار في ليبيا؟
ـ بناءً على المعلومات المتوفرة حالياً لدي، لا يمكن الجزم بأن سد “جازا” هو أقرب سد للانهيار في ليبيا، لكن يمكن القول إنه يشكل مصدر قلق ملحوظ. الأمطار الغزيرة التي جلبتها العاصفة “دانيال” أدت إلى ارتفاع مستوى المياه في السد إلى مستويات غير مسبوقة، مما دفع البلدية لإصدار نداءات عاجلة خوفًا من احتمال حدوث انهيار مشابه لما جرى في درنة.
مع ذلك، فإن التدابير التي اتخذتها اللجنة المعنية، مثل فتح صمامات التنفيس، يمكن أن تكون قد خففت من الضغط على السد. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك تطمينات من قبل اللجنة بأنه لا توجد أخطار فورية قد يشكلها السد على المنطقة المحيطة، رغم أن هذه التطمينات لا تلغي المخاوف الكبيرة لدى السكان.
إن تقييم مخاطر انهيار سد معين يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك حالة الصيانة، تصميم السد، الظروف الجيولوجية والهيدرولوجية، والضغوط البيئية مثل الأمطار الغزيرة والفيضانات. من الضروري إجراء تقييم فني متخصص لتحديد مدى استقرار سد “جازا” وغيره من السدود في ليبيا.
وعلى الرغم من أن سد “جازا” قد يكون في وضع حرج في الوقت الحالي، إلا أنه لا يمكن تحديد إذا كان هو الأقرب للانهيار دون معلومات أكثر تفصيلاً حول حالة كل سد على حدة والتحديات التي تواجه.
ـ كم موجود سد في ليبيا، وهل وضعها مقلق؟
ـ في ليبيا، توجد 18 سداً تم بناؤها لأغراض متعددة بما في ذلك تجميع مياه الأمطار، السيطرة على فيضانات الأودية، توفير مياه الري، وتغذية الطبقات الجوفية. بينما هذه البنية التحتية حاسمة لتأمين الموارد المائية، فإن الوضع قد يكون مقلقًا إذا لم تُدار هذه السدود بشكل صحيح أو لم تُصان بشكل مناسب.
من المهم أن تتم صيانة السدود وتقييمها دوريًا لضمان سلامتها الهيكلية وكفاءة تشغيلها. كما يجب أن تكون هناك خطط للتعامل مع التحديات المحتملة مثل تغير المناخ الذي قد يؤدي إلى درجات حرارة أعلى، تغيير في أنماط الأمطار، وزيادة وتيرة الأحداث المناخية القصوى مثل الجفاف والفيضانات. هذه التغيرات يمكن أن تؤثر على قدرة السدود على أداء وظائفها بشكل فعال.
إذا لم تُواجه هذه التحديات والمخاطر بشكل استباقي، فقد يصبح وضع السدود في ليبيا مصدر قلق يهدد الأمن المائي والزراعي في البلاد.
وبخصوص، عدد السدود: يوجد 18 سدًا في ليبيا، تم بناؤها لتحصد مياه الأمطار وتساعد في السيطرة على فيضانات الأودية وتزويد مياه الري لتغذية الطبقات الجوفية.
السعة التخزينية الإجمالية: السعة الإجمالية لهذه السدود تبلغ 389.89 مليون متر مكعب.
متوسط السعة التخزينية السنوية: يبلغ المتوسط السنوي للتخزين 61.35 مليون متر مكعب.
ـ هل كلما زادت كميات المطر أصبحت السدود في ليبيا تشكل خطر؟
من الناحية النظرية، السدود مبنية على أساس حسابات هيدرولوجية وهيدروليكية تأخذ في الاعتبار أقصى تدفق متوقع للمياه. تُعرف هذه القيمة باسم “التدفق التصميمي الأقصى” وتُحسب بناءً على بيانات تاريخية للتدفقات والهطولات المطرية. إذا تجاوزت كميات المطر هذه الحسابات بشكل كبير، يمكن أن تحدث مشكلات جسيمة.
التفاصيل الفنية:
الفيضانات: السدود المصممة للتعامل مع معدلات هطول معينة يمكن أن تُغمر بسهولة عندما تزيد كميات المطر، مما يؤدي إلى تجاوز المياه للخزان وتدفقها إلى المناطق المحيطة مسببة فيضانات. في ليبيا، حيث البنية التحتية قد تكون أقل تطوراً بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية، فإن الفيضانات يمكن أن تكون كارثية. ليس هناك حاجة للتذكير بأن الفيضانات لا تضر بالمساكن والأراضي الزراعية فحسب، بل قد تؤدي أيضاً إلى تلوث مصادر المياه بالمواد الكيميائية والنفايات، مما يؤثر على صحة الإنسان والنظم الإيكولوجية.
تآكل السدود وانهيارها: الضغط الزائد والتدفق السريع للمياه قد يؤدي إلى تآكل المواد الأساسية للسد والأساسات. إذا لم يتم تصميم السد لتحمل هذا الضغط أو إذا كان هناك نقص في الصيانة، فإن خطر الانهيار يصبح حقيقياً. انهيار السد ليس فقط يؤدي إلى فيضانات مدمرة ولكن أيضاً يترك المنطقة بدون مصدر مهم للمياه العذبة.
التأثيرات البيئية والاجتماعية: الفيضانات الناجمة عن زيادة كميات المطر يمكن أن تغير بشكل كبير النظم البيئية، وتؤدي إلى نزوح السكان، وتدمير المحاصيل الزراعية، وحتى تفاقم النزاعات على الموارد.
انعدام الصيانة وسوء الإدارة وعدم وجود نظام إنذار مبكر:
الصيانة المنتظمة والإدارة الجيدة للسدود أمران حيويان للحفاظ على سلامتها وكفاءتها. في ليبيا، قد يكون انعدام الصيانة المتكررة نتيجة لمجموعة من العوامل، بما في ذلك النقص في التمويل، الفساد، أو التحديات اللوجستية المرتبطة بالاضطرابات السياسية والأمنية. السدود التي لا تتلقى صيانة دورية قد تعاني من مشكلات هيكلية تشمل تآكل المواد، ترسب الرواسب، وضعف الأساسات، مما يزيد من خطر الفشل في حالة الضغط الزائد من المياه.
سوء الإدارة يمكن أن يتجلى في عدم القدرة على تقييم المخاطر بشكل صحيح، عدم وجود خطط طوارئ محدثة، وفشل في التنسيق بين الوكالات المختلفة. هذه النقاط تجعل الاستجابة للأزمات بطيئة وغير فعالة، مما يضع حياة الأشخاص والبيئة في خطر.
فيما يتعلق بأنظمة الإنذار المبكر، فإن غيابها يعني أنه لا توجد تحذيرات في الوقت المناسب للسكان المحليين لإخلاء المناطق المعرضة للخطر. نظام الإنذار المبكر الفعال يجب أن يشتمل على مستشعرات لقياس مستويات المياه، شبكة اتصالات موثوقة لإبلاغ السلطات والسكان، وخطط إخلاء مدروسة. بدون هذه الأنظمة، يتم تقليل الوقت المتاح للتحرك والإجلاء، مما يؤدي إلى زيادة الخسائر في الأرواح والممتلكات.