هل نحن أمام (فرانس أفريك) جديدة ؟
بالحبر السري
بقلم: علي الدلالي
ما نشهده في منطقة الساحل الأفريقي وفي وسط أفريقيا بل وفي عموم ما يُعرف بأفريقيا الفرنكوفونية يُمكن أن نقرأ بين سطوره للوهلة الأولى أنه حالة من التمرد على الوجود الإستعمار الفرنسي على خلفية ما يبدو أنه حالة من الوهن أصابت دوائر صنع القرار في باريس أمام المتغيرات الدولية المتسارعة وتفكك المنظومات الجيوسياسية الدولية القديمة.
كنت أشرت في مقالات سابقة إلى حالة التمرد من مالي إلى بوركينا فاسو مرورا بأفريقيا الوسطى واليوم في النيجر، ضد الوجود الفرنسي وذهبت إلى حد وصف تلك الحالة بصحوة الدول الواقعة في منطقة النفوذ الفرنسي وتمردها على النظام النيوكولونيالي الفرنسي غير أنني أرى اليوم أنه لا بد من الوقوف عند الكثير من المؤشرات وربما التريث قليلا.
خرجت الشعوب الأفريقية فيما أطلقت عليه فرنسا الإستعمارية غرب أفريقيا الفرنسي، في ستينيات القرن الماضي، إلى الشوارع والميادين في المدن والقرى والأرياف مدفوعة برياح الإستقلال للتعبير من خلال الغناء والرقص الأفريقي المشهور عن فرحتها العارمة بنسائم الحرية إلا أنها سرعان ما استفاقت من نشوتها لتدرك أن فرنسا غادرت صوريا بعد أن ولت على الأفارقة طغاة من بني جلدتهم أشد قسوة عليهم من المستعمر وأكثر ولاء لفرنسا من الفرنسيين أنفسهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، هوفوات بوانييه، رئيس الكوت ديفوار (ساحل العاج) الذي جهزته فرنسا، عبر شبكة جاك فوكار، ليشغل مناصب وزارية عدة في الحكومة الفرنسية، قبل تنصيبه رئيسا للكوت ديفوار منذ الإستقلال عام 1960 حتى وفاته عام 1993.
علاوة على دور الحارس الأمين للمصالح الفرنسية في الكوت ديفوار، عمل هوفوات بوانييه على دعم الإطاحة بالمناضل الأفريقي الكبير، كوامي نكروما في غانا عام 1966، ودبر الانقلاب الفاشل ضد ماثيو كيريكو في بنين عام 1977، وساهم في الإطاحة بالمناضل الأفريقي الشاب، توماس سانكارا، عام 1987 في بوركينا فاسو، ودعم حركة (يونيتا) المتمردة في أنغولا.
إن فرنسا اليوم ليست بكل تأكيد فرنسا جاك فوكار، ذراع فرنسا النيوكولونيالية في أفريقيا، الذي استدعاه الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول ليتولى إدارة ملف الدول الأفريقية ما بعد الإستقلال وضمان استمرار النفوذ الفرنسي والحفاظ على مصالح فرنسا وتنميتها. ونفذ فوكار سياسة فرنسا النيوكولونيالية المبنية على المبدأ الذي يقول: ” للسيطرة على البلد ينبغي فقط التحكم بشخص يتمتع بكل السلطات”. وهكذا استمر الإستعمار الفرنسي رغم رحيل القوات الفرنسية.
عمل فوكار طيلة عقود على تعيين الرؤساء الأفارقة والإطاحة بهم وفق النهج المرسوم في قصر الأليزيه (الرئاسة) وأنشأ شبكته التي جمع فيها عتاة رجال الأعمال والاقتصاد والمخابرات والقوات المسلحة الفرنسية والمعروفة إعلاميا (فرانس – أفريك) ليبقى الذراع الوحيدة المسيطرة في أفريقيا.
بدأت مهمة جاك فوكار عام 1958 قبل انطلاق موجة الإستقلال التي شملت 14 مستعمرة فرنسية سابقة وكان هدفها الوحيد إبقاء الدول الأفريقية الفتية “المستقلة” تحت سلطة باريس في كل شيء، من استيراد “إبرة الخياطة إلى السيارات والسلاح إلى مناهج التعليم والصحة والدواء والغذاء وتحديد ما يتم زرعه وما يخرج من باطن الأرض الأفريقية“.
غيًر الإستعمار الفرنسي على مدى حوالي قرن من الإستعمار حياة الأفارقة وشوه الثقافة الأفريقية وكاد أن يقضى على الموروث الثقافي الأفريقي، ويكفي الإشارة إلى أن فرنسا الإستعمارية تدخلت حتى فيما يأكله الأفارقة وفرضت عليهم الأرز الذي كانت تجلبه من مستعمراتها في الهند الصينية ليصبح أساس الأكلات الشعبية.
إن فرنسا اليوم هي ثالث قوة نووية فوق الأرض، تحارب في السر والعلن من أجل مصالحها ولها أذرعها الطويلة العسكرية والمخابراتية في العالم وخاصة في أفريقيا وتحديدا في “مستعمراتها السابقة”، ومن غير المنطقي، بل من الغباء، أن نقبل ببساطة أنها تقهقرت بين عشية وضحاها في أفريقيا ضعفا أو هربا.
الأسئلة التي تدعو للإستغراب والتريث كثيرة : ألم تكن فرنسا على علم بالإنقلاب العسكري في النيجر؟ ألم يكن في مقدور الـ 1500 جندي فرنسي المتمركزين في قاعدة نيامي القضاء على الإنقلاب وإخماده في المهد بعد ربع ساعة فقط من إعلانه قبل أن يستيقظ سكان العاصمة النيجرية نيامي؟ والسؤال الأهم: هل نحن أمام نسخة معدلة من جاك فوكار و(فرانس – أفريك) جديدة رقمية؟ وبالتالي علينا التريث وألا نستعجل الغناء والرقص كما حدث في ستينيات القرن الماضي.