محمد الهادي الجزيري
عرفتها لا أدري أين ..لا أذكر متى ولا أريد البحث عن ذلك ..، المهمّ أني عرفتها وكفى، وانطلقت رحلتنا مع الحرف والمعاناة والحبّ والألم ..إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة المضحكة إلى حدّ القهقهة : رجل ستّيني ينطق الكلمات بصعوبة..وامرأة في أوج عنادها وضراوة مرضها ..، هو جالس أمامها وهي متربعة على عرش الوجع ..وتقرأ شعرها المسافر مع الزمن ..والمتسلّق لحيطان الغد والمستقبل …
يقول أدونيس : ما أمرّ اللغة الآن ..وما أضيق باب الأبجدية..، ولكنّي مواصل للكلام وكاتب عن كتابيْها الصادريْن تباعا ، الأوّل : شاعرة الأقاصي فاطمة بن فضيلة وهو من إعداد ليلى ناسمي وعبد الله المتقي وسلوى الرابحي، والكتاب الثاني بعنوان : حمّالة صدر بعين واحدة..، تقول فاطمة في كتابها الثاني في قصيدة كغدير ناء:
” مشحون كليلة وداع،
مرتجف كسمكة عالقة في الطعم ،
مشتعل كغابة قديمة،
ممتلئ كغدير ناء،
ضاجّ كعرس قرويّ،
مؤمن كحانة،
مرتدّ كدير،
وحيد كربّ،
هذا الصباح
قلبي. ”
هذه لمحة من النفس الشعري لهذه الموهبة الكبيرة ..، فبطريقتها الخاصة تجمع كلّ المتناقضات البعيدة في جملة واحدة ..أو معنى قويّ وصادم ..لتؤكد للقارئ أنّ قلبها في عزلة تامة عن العالم ..فهو وحيد هذا الصباح ..وكلّ صباح ..
لفاطمة أصدقاء كثر وصديقات كالنجوم ..، ومن ضمن الصديقات شاعرتين هما ليلى ناسمي المغربية التي أحبّت تونس واتخذتها مسكنا ، وسلوى الرابحي الطفلة التي وجدت في فاطمة ضالتها ..، الشاعرتان ساهمتا في إعداد كتاب : شاعرة الأقاصي يُعنى بفاطمة وما كتب عنها بأقلام مجموعة من أصدقاء المبدعة ومريديها..، إضافة إلى الناقد المغربي عبد الله المتّقي..، وسأنتقي للشاعرتين فقرتين من كلامهما، ونبدأ بليلى ناسمي :
” .. ستجدها في مواقف إنسانية بالمستشفى مثلا حيث صارت أيقونة التصدّي والتحدّي من أجل الحياة ..، عندما يعجز دكتور عن طمأنة مريضة يستغيث بفاطمة، فاطمة الوحيدة القادرة على شتلة أمل بدل نهد تعطّل..الوحيدة القادرة على استنبات الحبّ في حقل جفّ أو قلّ حَبّه ..”
أمّا سلوى الرابحي الصديقة اللصيقة بفاطمة بن فضيلة فقد غمرتها بنصّ حميمي ومنه نقتطف هذه الفقرة:
” ..ستشعر مثلي أنّها منك ومن أهلك وأنّها لا تنتمي أبدا إلى الأغراب لأنّها مبثوثة في كلّ سطر كتبته، فالكتابة بالنسبة إليها هي أن تكون نحن، فنشعر أنّنا صرنا القصيدة واللحظة، صرنا فاطمة..”
لقد أقحمت فاطمة في قصيدتها عناصر غريبة عنها والقارئ غير معتاد عليها وعلى التعامل معها في القصيدة ..المعروف عنها والمتداول عليه..أنّها نصّ بريء من كلّ قبح أو عاهة أو عجز..، معروف عنها أنّها تنتصر للحبّ والفرح والأمل ..حتّى وإن كانت ملبدة بالحزن ..، فماذا فعلت هذه الطفلة الكبيرة فاطمة؟..، أقحمت أسماء أدوية السرطان في الدورة الدموية للنصّ ..فيباغت القارئ بأسماء مثل :
Herceptine
Xeloda
Capecetabine
وهذا أكبر تحدّ للشعرية ..، كيف تكتب عن أشياء مرتبطة بالقبح بصورة جميلة وتضفي عليها صفات مقبولة تتلقّفها النفس ..، فتلك هي فاطمة..، خُلقت مقاومة منذ كانت ..ولتحيا الفاطمة المقاومة ..، ستنتصر ..والأكيد أنّها حقّقت ذاتها وتوّجت نصّها بالانتصار
تقول فاطمة في قصيدة إ رسبتين :
” إرسبتين
…
بتروا فكرتي مرّتين
وشجّوا رؤوس القصائد في إصبعي
إرسبتين
…
تغوص قصائدنا في ليالي الحنين
يعاودها الهذيان
أرى وجهك بين حلمين
وأسمع وقع خطاك على الدُرج العائد ..”
أختم ..ما لا يُختم كالحبّ تماما ..، بفقرة انتقيتها من نصّ لي صدر بكتاب ” شاعرة الأقاصي فاطمة بن فضيلة ” ……..
” .. وأنا أتابع خطواتها وأعجب من مدى إيمانها بموهبتها وخاصة مدى عنادها السريالي ، تقول لكلّ من ينتقدها بعدم كتابة شيء ما عن الثورة:
” لك مئات الشعراء يمتهنون الشعر الثوريّ ، فدعني لقصيدتي وهوسي وعشقي المفتوح على العالم ”
خلاصة القول، نحن أمام قصيدة تونسية لها وزنها ومكانتها، وستكتب أجمل ممّا أبدعته، فانتظروها قليلا..,ريثما تصلح بعض أخطاء الطبيعة …