منصة الصباح

عُزلة المثقّف في زحامِ المدن

عبدالسلام الغرياني

في محاضرته الشهيرة “


“، التي ألقاها في عام “1962”، لاحظ الشاعر “وستان أودن” ظاهرة غريبة: ازدياد عدد الأشخاص الذين يطمحون لأن يكونوا كُتابًا، حتى وإن كانوا يفتقرون إلى الموهبة الأدبية الواضحة.

هذا الأمر مُثيرٌ للدهشة، فمن الطبيعي أن يعتقد البعض بامتلاكهم موهبة في مجال معين، لكن أن يتجه الكثيرون إلى الكتابة، دون أي مؤهلات واضحة، فهذا أمر يستحق التساؤل..

يُشيرُ “أودن” إلى أن الرأسمالية قد حوّلت العامل إلى مجرد أداة في آلة الإنتاج، لقد دفعت بالفرد إلى البحث عن طرق للتعبير عن ذاته والسيطرة على حياته.. ويرى أن الفن يمثل ملاذًا للكثيرين، خاصة أولئك الذين يشعرون بالضياع في عالم مادي، حيث يمنحهم فرصة للتعبير عن أنفسهم بحرية وإبداع..

ويُشدّد “أودن” على أن جاذبية الفن، تكمن في قدرة الفنان على أن يكون سيد هذا الفن، وفي إمكانية أن يخلق عالماً خاصاً به بعيداً عن قيود الواقع..

يشيرُ “أودن” إلى أن الكاتب المعاصر يواجه تحديات كبيرة لم يواجهها كتّاب الماضي.. فالتغيرات السريعة في العالم، والتطور التقني المتسارع، والشكوك حول وجود حقائق موضوعية، كلها عوامل تؤثر على عمل الكاتب وتقلل من قيمته..

ويُشدّد على أن فقدان الإيمان بأن الفن خالد، والخوف من أن الثقافة الحالية لن تفهم أعمالنا في المستقبل، يزيدان من معاناة الكاتب..

ويشير “أودن” إلى تحوّل جذري في مفهوم المجال العام والخاص.. فبينما كان الإغريق يقدّرون المجال العام كفضاء للحوار الحر والتعبير عن الذات، أصبح هذا المجال في عصرنا الحالي مكاناً للعمل والوظيفة، حيث يضطر الفرد إلى أداء دوره الاجتماعي..

في المقابل، تحوّلت الحياة الخاصة إلى ملاذ للفرد للتعبير عن هويته الحقيقية. هذا التحول، الذي يتأثر بشكل كبير بالتطور التقني، وتسارع وتيرة الحياة، أدّى إلى فقدان الفنون، وخاصة الأدب، لموضوعها التقليدي وهو الإنسان كفاعل في المجال العام.. فبدلاً من أن يكون الفنان صوتاً للمجتمع، أصبح يعبّر عن تجارب شخصية محدودة، الأمر الذي يفقده الكثير من عمقه وحيويته..

ويرى “أودن” أن التقنية تؤدي دوراً محورياً في هذا التحوّل، حيث أنها تساهم في تقييد الحرية الفردية، وتجعل من الصعب على الإنسان أن يكون فاعلاً حقيقياً في المجال العام.. كما أن التخصص الدقيق في مختلف المجالات يجعل من الصعب على الفرد أن يكون متعدد المواهب، وهذا يحدُّ من قدرته على الإبداع في مختلف المجالات..

ويخلُص “أودن” إلى أن هذا التحوّل في دور الفرد والمجتمع، له عواقب وخيمة على الفنون والآداب، حيث يجعل من الصعب على الفنان أن يجد موضوعات إنسانية حقيقية تستحق التعبير عنها.. كما أنه يقلل من قدرة الفن على التأثير في المجتمع وتغيير الواقع..

يحلم الكاتب بالسيطرة الكاملة على عمله، لكنه يكتشف سريعاً أن هذه السيطرة أمر مستحيل..

فالعوامل الخارجية والتحديات التي تواجهه، تجعله يُدركُ أن الكتابة عملية معقدة تتجاوز إرادته..

شاهد أيضاً

تونس بخير مَسْرَحِيّاً

جمعة بوكليب زايد…ناقص أنا على وعي ومتابعة مستمرة بما ينشر من تقارير في وسائل الاعلام …