منصة الصباح

عن فضيلة النُبل

جمعة بوكليب
زايد..ناقص

طبقة النبلاء، استناداً إلى المؤرخين، ظهرتْ وانتشرتْ في أوروبا، في العصور الوسطى، إبّان الحقبة الاقطاعية. والوصف: رجلٌ نبيلٌ، تعني في تلك الحقبة، الانتماء إلى الطبقة الحاكمة الأرستقراطية النبيلة.
ولا أعرف السبب في اختيار، أهل تلك الحقبة، فضيلة النُبل، من بين كل الفضائل والأوصاف الأخرى،لإطلاقها على فئة محددة، في مجتمعاتهم. وأنا، هنا، لست في موقع المحاسب أو القاضي. فلكل عصر ثقافته وتقاليده وألقابه ورجاله، ومزاياه وعيوبه. وحتى الحقب الزمنية، التي توصف بالذهبية، في تواريخ بعض الأمم، فإن الذهب المقصود، ليس عيار 24. أي أنّها لا تخلو من مثالب يفضلون السكوت عنها.
وما أود الإشارة إليه، هو أن فضيلة النُبلِ كانت تطلق على فئة من البشر، يفتقدون النُبْلَ، بمعناه الحقيقي. والتاريخُ يؤكد أن نبلاء ذلك العصر تميّزوا بمزايا عديدة، ليس من بينها النُبلُ. كانوا قساةً متعجرفين. واشتهروا بسوء معاملة من هم أقل منهم منزلة وحظوة.
النبلُ قيمة وفضيلة انسانية سامية. وفي رأيي الشخصي، أكثر ما يتبدّى سُموّه في الرفق بالضعفاء والمساكين، و الأطفال و العجزة، ولا يتستثنى من ذلك الرفق بالحيوان، وبالبيئة وكائناتها. لكنني، في هذه السطور القليلة، أخترت التركيز على الرفق في معاملة كبار السنّ. ليس لأنّي قد بلغتُ من العمر ما يؤهلني لأن أحظى بشرف الانتماء إلى تلك الفئة من البشر، وأُمنحُ بطاقة عضوية في أنديتهم، أينما كانت. وليس، كذلك، لأنّي صرتُ حاجّاً، كما يحب مناداتي، تأدّباً، من هم أصغر منّي عُمْراً. وكأن الحجَ، في اعتقادهم، عبادةٌ محظورةٌ على صغار السنّ، أوكأن لقب “حاج” حِكرٌ على امثالين ممن مضغهم الزمن، وامتيازٌ يَخصّهم.
الرفقُ بكبار السنّ على مستويين: الدولة والمجتمع ممثلاً بأفراده. وفي تصنيف الأمم على درجات السلم الحضاري، هناك معايير كثيرة. يأتي في مقدمتها مدى اهتمامها بمواطنيها من كبار السنّ، وما توفّره لهم من رعاية وعناية، واحترام وتقدير.
وعلى الاجمال، يمكن القول، إن المجتمع الانساني منح أفراده المتقدمين في العمر مكانة خاصة، ترسخت بمرور الزمن، أعترافاً بما قدموه من أعمال لبلدانهم.
وما دعاني للحديث في هذا الموضوع، أنني، خلال الأسبوع الماضي، وفي زيارة قصيرة إلى مدينة القاهرة، ذهبت، في اليوم التالي لوصولي، لزيارة معرض الكتاب. كان الزحامُ لافتاً. وقف الزوّار في طوابير طويلة، أمام شبابيك بيع التذاكر في كل بوابات الدخول. ولم يكن أمامي سوى الالتحاق والانضمام إلى واحد من تلك الطوابير، عملاً بالمثل ” زي الناس لاباس.”
وحين وصل دوري، ووقفت أمام شباك التذاكر، قابلني في الجهة الأخرى منه، وجهان لشاب وفتاة، يجلسان متجاورين على كرسيين. حييتهما، وطلبت تذكرة واحدة. لكن الفتاة سألتني بأدب ان كان عمري فوق سنّ الستين. فأبتسمت مستغرباً، لكني هززت رأسي مؤكداً أنني، بالتأكيد، فوق الستين. فردت قائلة إنني لست في حاجة إلى تذكرة، لأن الدخول إلى المعرض مجاناً، لمن هم في عمري. فأبتسمت مبتهجاً وشكرتهما معاً، واتجهت إلى بوابة الدخول المجاورة.
الحقيقة، أنني فؤجئت بتلك اللفتة الانسانية النبيلة والمبادرة غير المتوقعة، والصادرة من إدارة المعرض. وأحسست ببهجة تغمرني لما حظيت به سنوات عمري من تقدير. لم يكن مهماً لي مطلقاً الاعفاء من دفع ثمن تذكرة الدخول، لأنه زهيد حقاً، وكنتُ قادراً على دفعه. وما يهمُّ هو أن شخصاً يحمل على كاهله ثقل سنين كثيرة، لا يحتمل كثيراً الوقوف منتظراً في طابور طويل. واعفاؤه من ارهاق الانتظار وقوفاً، تقديراً وأحتراماً، يعدّ تعبيراًعن سلوك حضاري، ولفتة انسانية نبيلة.

شاهد أيضاً

زيادة الوزن وطريق الموت

مع شاهي العصر: توجد دولة في جنوب أمريكا اسمها بوليڤيا بها شارع يعد أخطر شارع …