منصة الصباح

درنة.. الدرس الأكبر في المنهج الإنساني

علي الهلالي

درنة.. ليست مجرد اسم لمدينة تمشط ضفائرها على المتوسط وتستعرض جمالها في الجبل الأخضر.. لأنها درنة معنى الجمال واختزال الثقافة والفن.

في رحابها وُلِدَت حكايات توالت على مدى التاريخ.. من الاغريق إلى الرومان وليس انتهاء بالبيزنطيين.. كشفت شواهدها عن تفوق الليبيين في مضمار الأدب والشعر والفن والجمال..

درنة دُرة في جيد ليبيا مسبوكة بالفل مُضمخة بالحب مُكللة بالوداد..

أبناء درنة ككل الليبيين كانوا بررة بمدينتهم.. وانتشروا عبر أحيائها ينثرون عبيرها عبر كل حناياها.. من كرسة إلى باب طبرق مروراً بشارع الفنار.. حيث في كل ركن من مدينة الجمال كان الياسمين يعلن حضوره.

درنة كانت ككل مدن ليبيا تغفوا ليلها حالمة بغدٍ أجمل.. بصباح يلتئم فيه شمل أبناء هذا البلد.. بشمس تشرق على سواعد أبنائها وهي تتشابك لبناء وطن يسع الجميع ويزدهر بالجميع..

كانت أحلام درنة وسكانها غير بعيدة عن باقي أحلام المدن الليبية..

كانت احلامها تختزل في أن تلتقي الجهود بدل أن تتقاطع.. تختصر في أن تغلف الوجوه ابتسامات بدل الوجوم.

كانت تنبذ سؤال (من أين أنت).. لتقول بدلاً عنه (مرحبا بك.. أنت في مدينتك)..

وكان بيت الثقافة درنة مركز اشعاع ثقافي وفكري.. يلتقي فيه الليبيين يقيمون محافلا للإبداع والتألق.. يعلنون من خلاله أن الليبي ليس قاصراً فكرياً ولا هو مراهق ثقافي لكنه ناضج بما يكفي ليخوض غمار المنافسة العربية والعالمية في هذا المضمار..

شهد هذا البيت ولادة كتاب وإبداعات ومنجز تحقق لكل الليبيين.. كان لدرنة شرف أن يكون على أرضها.. وفي إحدى زوايا احيائها..

ليالي درنة كانت كلها أمل.. وتلك الليلة كانت المدينة على موعد مع الفاجعة..

هدير الماء الذي كان يشي بالحياة كان الصوت الذي لم يعلو عليه صوت في المدينة.

وتدفق الماء.. في كل شرايين المدينة التي كانت تستلقي وادعة على حلم أن تستيقظ صباحاً لتعيش حياتها كباقي المدن..
كانت أحلام أهلها ورغم تباينها إلا أنها تتوقف على أن يستيقظوا صباحاً ليضرب كل منهم في الأرض طالباً حياته في مجاله..
الماء أصل الحياة.. وهو الذي جعل الله منه كل شيءْ حي.. لكنه تلك الليلة لم يكن كما عهده البشر..

لم يكن قادماً بالحياة.. لم يكن ودوداً في حضوره.. فيضانات وسيول عمت تلك الليلة كل أنحاء المدينة.. ومن زغاريد الفرح التي كانت الموسيقى اليومية لجنة الأزهار إلى صراخ وعويل صدحت به الحناجر خوفاً على أفراد الأسرة وبكاء على من لم يعد بعد أن خرج يُلقي نظرة..

من عبارات التهاني عقب حفلات الزفاف التي كانت تُقام في المدينة إلى تعاز وتساؤلات وصيحات ألم على كارثة بدأت تتضح معالمها..

كارثة غير مسبوقة وسببها هو أكسير الحياة.. موت يجلبه الماء!!

وبدأ الموت ينشر سدوله على مدينة اعتادت نشر الحياة وإعادة بعثها..

بدأ الموت يتمترس في المدينة بعد أن بدأت الحياة تتراجع فيها بشكل مخيف..

تدفقت المياه على شكل فيضانات وسيول جارفة معها كل أشكال الحياة التي شحبت معالمها أمام الموت القادم ممتطياً صهوة من كان السبب في الحياة..

ليلة أعاد فيها الموت حساباته في مدينة كانت تضج حياة.. وسيطر هو على المشهد..

صباح اليوم التالي علم من بقي حياً أن الموت كان جاداً في اكتساحه للمدينة..

حيث لازال يزأر في حناياها وجرف كل ماله علاقة بالحياة.. لم يترك مبنى أوسد وحطم ما كان يطاله في طريقه..

خيم الموت بآثاره على المشهد وبعد ايام من فزعة الليبيين التي لم تكن تُفرّق بين من كان قادماً من العجيلات أو اوباري..

ولم يختلف القادم من غدامس لإنقاذ اخوته في درنة أو اغاثتهم عن ذلك القادم من أوجلة..

زرافات ووحداناً حلَّ الليبيون من كل حدب وصوب في مدينة الياسمين ولم يتركوا الموت يستفرد بها..

جاءوها من كل الأنحاء لأنها كانت عضوا اشتكى.. فتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..

فيضانات درنة ورغم المأساة آذنت بفيضان ود غمر ليبيا لتبدأ معادلة التلاحم الوطني..

في هذا اليوم لا نملك إلا أن نقف إجلالاً أمام الدرس الكبير الذي قدمه الليبيون في معادلة الحياة والموت..

 

شاهد أيضاً

نَحْنُ شُطَّارٌ فِي اخْتِلَاقِ الأعْذَارِ

باختصار د.علي عاشور قبل أيام قليلة نجحنا نحن الليبيون في ما يزيد عن خمسين بلدية …