نقوش
بقلم /منصور أبوشناف
بالأكاكوس وليس بعيداً عن كهف «صالون الحلاقة» كما يسميه أدلاء السياح، حيث لوحة صباغة الشعر التي يزيد عمرها على الثمانية آلاف عام، كنت أقف أمام حقيقة جعلها البروفيسور (موري) وفريق العمل العامل معه تلتمع ساطعة واضحة، كان فريق الجيولوجيا قد حفر حفرة عند مدخل كهف ملأه الرمل، كانت الحفرة تتكون من طبقات عديدة صفراء وسوداء.
أشار (موري) إلى أن الطبقات الصفراء تدل على عصر تصحر أما السوداء فتدل على عصر مطير، كانت الطبقات متعاقبة، صفراء ثم سوداء ثم صفراء من جديد ويضيف موري: هذا يدل على أن الصحراء لم تمر بالتصحر لمرة واحدة بل مرت عليها عصور مطيرة وأخرى جافة كالتي نعيشها الآن، كنا قد قرأنا في المدارس أن الصحراء كانت غابات خضراء وأن وديانها كانت أنهاراً تتدفق وأن شعابها كانت روافد لتلك الأنهار ثم غزاها الجفاف وتصحرت. موري وفريقه يصفها ـ أي الصحراء الكبرى ـ وهو يتكئ على الجدار الداخلي للكهف «صالون الحلاقة» بأنها كالرئة تشهق تشهق عند عصورها المطيرة فتجذب البشر والكائنات الحية الأخرى وتزفر إثر عطش عصورها الجافة فتطرد البشر والكائنات الحية الأخرى بعيداً عنها.. على هذا النحو غزاها الزنوج والشقر في فترات مختلفة من عصورها المطيرة وعلى هذا النحو أيضاً زفر سكانها باتجاه منابع المياه شرقا وغرباً حاملين معهم بالطبع عاداتهم وتقاليدهم.. ببساطة حاملين معهم ثقافتهم ومعتقداتهم.. (موري) يشير بأصبعه الطويل إلى رسمة على جدار الكهف، لقد سبق الليبيون اليونانيين في تصوير الآلهة على شكل بشر كذلك كانوا.. يضيف قائلا: أول من اكتشف الأصباغ والتلوين.
(ايتالو كالفينو) الكاتب الإيطالي قال لـ (موري) وهو يشاهد صوراً للأكاكوس: يا إلهي لقد اكتشفت يا(فابريتسيو) إطلنطا الغارقة.. يتذكر (موري) كلام (كالفينو) ويسرح بعيداً.. وأنا أدخل الأكاكوس ليلاً لم ينتابني إلا إحساس واحد، لقد كنت أدخل مدينة حديثة للغاية بعماراتها الشاهقة وأقواس نصرها، وأقواس زينتها بل وبإيقاعات، موسيقى فنانيها الساهرين فقط، كانت مدينة تغرق في الظلام وتنتظر عودة النور إليها، فجأة تبدو مصابيح صغيرة وسط ذلك الفضاء الهائل (وصلنا معسكر موري) يقول دليلنا، كانت مصابيح معسكر (موري) والباحثين الإيطاليين والليبيين تحاول أن تعيد للمدينة الغارقة ملامحها.. كانت الأكاكوس تعود للحياة عبر هؤلاء الباحثين وتقدم للعالم ولنا كنوز الصحراء المذهلة.
كرومنتيكي ضال، كنت أفتش عن معنى غنائي لهذا الوجود الفقير البائس.. كنت أبحث عن ضوء وظل وإن كانا بلا معنى.. كان التاريخ والأسطورة ضوءاً وظلاً من سراب. كانا مقاومة للنسيان.. بعيداً عن صالون الحلاقة وفي ميدان آخر من ميادين الأكاكوس كانت رقوش للزرافة والفيلة ووحيد القرن وقافلة للقرود تتشبث بالمكان رغم التصحر والعطش.. كان فنان ما قبل التاريخ قد رصد وثبت تلك الكائنات منذ عشرة آلاف عام مقاومة للتصحر والنسيان.. كان الحفر والرقش على الصخر أداة الإنسان السحرية الأولى .. كانت رغبة السيطرة على الكائن الآخر الذي شارك الإنسان في هذا الفضاء الهائل بفهم مواطن القوة والضعف فيه تتم هنا في الأكاكوس رقشاً ورسماً..