صباح الفن
~عبدالله الزائدي
في يوم من ايام عام 1967 طرح الشاعر المعروف مسعود القبلاوي على الشاب الطموح الهاوي للموسيقى على ماهر والذي أجيز حديثا ملحنا وعازفا في قسم الموسيقى بالاذاعة ، أن يقدما معا اغنية للصوت الساطع في ذلك الزمن خالد سعيد، والذي حققت اغنيته “يا قمر علالي” نجاحا كبيرا، و كان صوته في اوج شهرته، كان القبلاوي يتطلع الى تقديم اغنية جديدة في موضوعها ولحنها ، ويرى في تعاونه مع شاب مجاز حديثا كملحن فرصة قد تكون ناجحة و مختلفة عن السائد،لقد كانت في نظر القبلاوي مغامرة فنية، وكان يرى في شغف الشاب بالموسيقى احتمالا لنجاح المغامرة ، وقد تجاوزا القبلاوي وجود أسماء موسيقية مهمة،مفضلا على ماهر ، وبالطبع فرح ماهر بالعرض من شاعر مهم ،واقبل بحماس على جلسات مطولة مع الشاعر للبحث في أفكار جديدة تقدم اغنية في موضوع لم يسبق طرحه في الاغنية الليبية ، وبعد عرض الموضوعات اهتدي الاثنان الى موضوع الغربة عن الوطن، كموضوع يقدم للمرة الاولى واتفق الاثنان أنه موضوع جديد في الاغنية الليبية وقريب من الناس، وهكذا قررا الشروع في صناعة العمل، وبعد ايام انطلقت عبر الراديو اغنية “طوالي”، بصوت خالد سعيدى، ولتنجح نجاحا اكبر من المتوقع وتكون واحدة من اهم الاغاني الليبية و أجملها ، ويتجاوز النجاح الحدود حتى انها اصبحت من الاغاني المطلوبة في راديو الجزائر في برنامج مع المهاجرين، واشتهرت في تونس، وباتت حديث الصحافة وسهرات الاذاعة، يقول مطلع الأغنية
طوالي مروح طوالي
لصغاري والوطن الغالي
لناسي لخوتى و عشرت جيراني
لبوى وامى وعيالي
طوالي راجع لاحبابي
يكفي من الغربة يا صحابي
والبعد اللي مغير حالي
كان اللحن ثريا بالجمل الموسيقية العميقة، التي وضعت في قالب لحني ابداعي، بفواصل وتنوع في الكوبليهات، وايقاعات أعطت للكلمات الشعرية ترنيمة بارعة، وكتبت الاغنية بجدارة مبهرة شهادة ميلاد لموهبة عي اليوم ايقونة موسيقية ليبية ، وبالطبع عق النجاح اندفع الشعراء والمطربون يبحثون عن نجاحهم مع الشاب الصاعد، لكن الذكاء الفني كان ميزة أخرى عند علي ماهر، ليعلن التصدي لتجربة أكثر دقة وصعوبه، ليتصدى لتلحين قصيدة وطنية بالفصحى، وبعد بحث يختار رائعة الشاعر علي صدقي عبدالقادر قصيدة بلد الطيوب، كان على ماهر يعرف صعوبة تلحين هذه القصيدة ، و أن النجاح يحتاج إلى خوض التحديات الجسيمة، وكان ايضا مدفوعا بالتجريب والتجديد بملكته الفنية ، وهو يعلم التحدي الذي يحمله التجديد ، وبإصرار قرر خوض تجربة محفوفة الصعوبات وبدأ ماهر في تلحين القصيدة وكان الاقتراح المطروح في قسم الموسيقى أن يغنيها المطرب المغربي الشهير عبدالهادي بلخياط، لكن ماهر رفض الفكرة ، وكان يرى أن الأغنية ليبية وطنية وأن من يغنيها يجب أن يكون مطرب ليبي، واختار صوت محمود كريم ، ولانه يعمل على التجديد والابتكار والتفنن اضاف للقصيدة شطرا يردده الكورال يقول ( يا ليل يا لالي ) وهو مستوحى من الموشحات الاندلسية و التى تشتهر في طرابلس وغالب المنطقة الغربية، لكن الفنان الراحل حسن عريبي اعترض على الشطر، وكان عريبي مهتما بلون الاندلسيات ، واصر ماهر على اضافة الشطر ، وحدث خلاف كبير بينهما ، وتصاعد اصرار عريبي على حذف الشطر ووصل الخلاف الحاد الى تدخل وزير الاعلام في ذلك الوقت الراحل خليفة التليسي ، الذي قرر الاستماع الى اللحن بالشطر الاندلسية ،ليحسم الأمر بعد سماعه إلى إحدى بروفات الأغنية، بأن يبقى الشطر الاندلسي، وسجلت القصيدة بصوت محمود كريم ، وكان ويسجل النجاح الكبير الثاني والمبهر لملحن شاب صاعد ، واستقبل الناس القصيدة عبر الراديو باعجاب كبير، وكتبت الصحافة مرحبة بها وبالملحن الشاب ، بل فاق نجاحها اغنية طوالي، وتعتبر القصيدة الى اليوم علامة فارقة في تاريخ الاغنية الليبية ، واصبحت من اكثر الاغاني الوطنية عرضا في الاذاعة حتى اليوم، وتعاد في الحفلات لاكثر من مرة، واعاد الفنان محمود كريم غنائها في مهرجان الاغنية الليبية ببنغازي في عام 2003 وسط تصفيق حار وتفاعل كانها تغنى لاول مرة ، بعد اكثر من ثلاثة عقود على تسجيها ، وتوالت الأعمال الناجحة لعلي ماهر باجمل الاصوات الليبية والعربية منها، محمد رشيد، محمد السيليني عبدالهادي بلخياط نعيمة سميح ميادة الحناوي عليا التونسية اصالة نصري وبرغم رصيده الفني النوعي ظل على ماهر بعيدا عن عدسات الصحافة، وقليل الظهور الاعلامي، لايعرف الناس صوته الا في بعض الاغاني الصباحية ،التي انشدها بصوته ومنها ” صباح الخير يا عبدالله ” وقصتها أن ادارة الاذاعة الليبية طلبت منه وهو في القاهرة تلحين اغاني صباحية، فلحنها وسجلها بصوته، عدا ذلك لا يعرف الناس عن على ماهر الا الحانه الاستثنائية، وكانت في قناعته كما قال في حوار مع الناقد الفني والصحفي رمضان سليم، أن الفنان لا ينبغي له أن يجري وراء وسائل الإعلام ، بل أن وسائل الإعلام هي التي تبحث عنه، لأن القضية في نظره ليست مجرد قضية ظهور، كان على ماهر يهتم بالمحتوى،ومنشغل بقيمة ما يقدم للناس ، وكان يفضل الحديث بثقافته وموهبته الموسيقية عن العمل الفني لا عن شخصه، وحسبه في هذا ما قدم للمكتبة الاذاعية الموسيقية من ألحان فريدة .وكما كانت حياته الزاخرة بالعطاء في صمت، رحل على ماهر في صمت يوم الجمعة الأول من يوليو 2022 في احدى المصحات التونسية بعد معاناة قاسية مع المرض، لاصور من المستشفى لا فيديوهات ولا اهتمام بعلاجه بل ولا وداع يليق بتاريخه ، رحل بوقاره تاركا فيضا من روحه ليترنم في لحن ليبي الخلود