منصة الصباح

النموذج النرويجي و النموذج الليبي اين الخلل؟ 3-3

عبدالسلام الغرياني

فساد الطبقة السياسية الليبية – النهب المنظّم وتفكيك الدولة

لا تكتمل صورة الأزمات التي تعصف بليبيا دون تسليط الضوء على الدور المركزي الذي تلعبه النخبة السياسية الحاكمة في تفكيك مؤسسات الدولة وتحويلها إلى غنيمة يُتنافس عليها، وهو نهج يُعتبر امتدادا لفساد النظام السابق، فمنذ سقوط نظام القذافي عام 2011، تحوّلت الساحة السياسية إلى سوقٍ مفتوحٍ للصفقات المشبوهة، حيث تُبادَر المناصب الحكومية كأدوات للتربح، وتُختزل السلطة في امتيازات مادية فاحشة، بينما يُترك المواطن العادي يواجه مصيراً قاسياً بين انهيار الخدمات وغياب الأمل.

الثروة النفطية: وقود الصراع وملاذ النخبة

تشكل عائدات النفط، التي تتراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار سنوياً، العصب الرئيسي لاقتصاد ليبيا، لكنها تحولت أيضاً إلى أداةٍ لتمويل الفساد. فبدلاً من توجيه هذه الأموال لإعادة إعمار البلاد، تسيطر الميليشيات المتحالفة مع النخبة السياسية على حقول النفط والموانئ، وتفرض إتاوات غير قانونية على تصديره. تُحوّل هذه الأموال إلى حسابات شخصية أو تُستخدم لتمويل الحروب الأهلية، بينما تُتهم الحكومة المُعترف بها دولياً بإهدار المال العام عبر صفقات وهمية، مثل شراء معدات طبية بأسعار مُضاعفة، أو تعيين أقارب المسؤولين في مناصب وهمية برواتب خيالية.

الامتيازات الفاحشة: السياسة كمهنة للثراء

تحولت المناصب السياسية في ليبيا إلى وسيلة للاغتناء السريع، حيث يتقاضى النواب والوزراء رواتب تتراوح بين 12 إلى 16 ألف دينار شهرياً، وهو مبلغٌ يُعادل أضعاف راتب الموظف العادي الذي يتراوح بين 1500 إلى 3500 دينار، ولا تقتصر الامتيازات على الرواتب، بل تشمل بدل سكن و مركوب وعلاجًا في مستشفيات أوروبية وحصانةً من المحاسبة. بل إن الانقسام السياسي بين حكومتَي طرابلس وبنغازي فتح الباب أمام تعيين بعض الشخصيات في مناصب مزدوجة، ليتقاضوا رواتبَ من كلا الجانبين، في سابقةٍ تُجسد تحوُّل الصراع إلى مشروعٍ اقتصاديٍ للنخبة.

المصرف المركزي: أداة في يد الفاسدين

أصبح المصرف المركزي الليبي، الذي يُفترض أن يكون حارساً للاستقرار المالي، أداةً لتمويل الفساد المنظم. فتحت ذريعة “دعم الاقتصاد”، تُمنح اعتمادات مالية ضخمة لشركات وهمية أو لأشخاص مقربين من السلطة، دون رقابة أو شفافية. تُحوّل هذه الأموال لاحقاً إلى الخارج عبر شبكات غسل الأموال، بينما يُترك المواطن يعاني من تدهور العملة المحلية بسبب طباعة الدينار الليبي دون غطاء، مما تسبب في تضخمٍ تجاوز 30% عام 2023، وانهيار قيمة المدخرات.

العواقب: دولة منهارة وشعبٌ في دائرة اليأس

النتائج الكارثية لهذا الفساد لا تُحصى: فأكثر من 80% من الليبيين يعتمدون على مرتبات هزيلة للبقاء على قيد الحياة، امام غلاء المعيشة، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة. وتنهار الخدمات الأساسية يوماً بعد يوم؛ المستشفيات تخلو من الأدوية، والتعليم في ادنى مستوياته. وفي ظل هذا الواقع، يفر آلاف الشباب شهرياً نحو أوروبا، وبعضهم عبر قوارب الموت عبر المتوسط، بينما تُهاجر الكفاءات العلمية إلى دولٍ تمنحهم فرصاً بعيداً عن محسوبيات الأنظمة الحاكمة شرقا وغربا.

المقارنة مع النرويج: عندما تكون الثروة أمانةً وليست مِلكية

في النرويج، يُمنع أي مسؤول من الحصول على امتيازات تتعارض مع مبدأ المساواة، حيث تُحدد رواتب الوزراء والنواب بقوانين علنية لا تتجاوز 3 أضعاف راتب الموظف العادي. كما تخضع كل الصفقات الحكومية لرقابة هيئات مستقلة، وتُنشر تفاصيلها أمام الرأي العام. أما الصندوق السيادي، الذي تصل قيمته إلى 1.4 تريليون دولار، فيُدار بشفافيةٍ مطلقة، مع حظر استخدامه إلا بنسبة 3% سنوياً لضمان حقوق الأجيال القادمة. هذا النموذج يعكس ثقافةً تُقدس المصلحة العامة، بينما في ليبيا، تُختزل الدولة في طبقةٍ سياسيةٍ ترى الوطن “مزرعة خاصة”.

الفساد كنظامٍ: هل من مخرج؟

الفساد في ليبيا ليس مجرد ممارسات فردية، بل هو نظامٌ قائمٌ بذاته، تُغذيه ثلاثة عوامل:

الانقسام السياسي: الذي يمنح الفاسدين غطاءً للإفلات من المحاسبة.

الدعم الخارجي: لأطراف الصراع مقابل الحصول على امتيازات نفطية.

غياب الوعي الجماعي، بسبب أن الاعلام حكومي وصعوبة تكوين جماعات مدنية.

الحلول النظرية معروفة: مصادرة أموال

الفاسدين، وإصلاح القضاء ليكون سلطةً مستقلة، ودعم الإعلام المستقل لكشف الفساد. لكن تنفيذ هذه الحلول يبدو مستحيلاً في ظل سيطرة المجاميع المسلحة والطبقة السياسية على مفاصل الدولة. فليبيا، التي كان يُفترض أن تكون نموذجاً للازدهار بعد ثورة 2011، تواجه اليوم مصيراً قاتماً: إما أن تنتفض الشعوب لتغيير المعادلة، أو ستظل الثروة النفطية لعنةً أبديةً تدفن أحلام شعبٍ يستحق حياةً أفضل.

شاهد أيضاً

هاشم شليق

الإسلام أولاً وبلد المليون حافظ

محطة هاشم شليق صدر تقرير جديد عن مركز بيو للأبحاث مفاده أن الإسلام ينتشر والنصرانية …