تقف ليبيا، المطلة على البحر الأبيض المتوسط وشاسعة المساحة الصحراوية، على خط المواجهة مع أزمة المناخ العالمية، تؤكد تقارير دولية ووطنية أن البلاد تصنف من بين الدول الأكثر عرضة لتبعات التغير المناخي والأقل استعدادا للتكيف معها.
وبينما تواصل درجات الحرارة ارتفاعها بوتيرة تفوق المتوسط العالمي، تتجسد الحقائق القاسية للاحترار في ظواهر مُتطرفة كشفت عن هشاشة البنية التحتية والموارد الحيوية، أبرزها كارثة العاصفة “دانيال” التي ضربت السواحل الشرقية، لتطلق صافرة إنذار بضرورة العمل الفوري لإنقاذ الأمن المائي والاجتماعي الليبي.
الكارثة المتطرفة والتهديد الوجودي للمياه
تشير البيانات المناخية والتقارير الوطنية الليبية مثل البلاغ الوطني الأول لتغير المناخ، إلى أن التغير المناخي يضرب البلاد على ثلاثة محاور رئيسية تهدد استقرارها.
أولاً، أصبحت البلاد عرضة بشكل متزايد للظواهر الجوية المتطرفة، والتي تجسدت في كارثة العاصفة “دانيال”.
هذه العواصف المتوسطية تتزايد شدتها وتكرارها، محدثة فيضانات مفاجئة ومدمرة كشفت عن هشاشة البنية التحتية وغياب نظم الإنذار المبكر الفعالة، مخلفة خسائر بشرية ومادية غير مسبوقة.
ثانياً، يتفاقم التحدي الأهم وهو أزمة ندرة المياه، اذ تشهد مناطق واسعة من ليبيا تراجعاً حاداً في معدلات الهطول المطري السنوي، مما يهدد الأمن المائي ويعمق الاعتماد شبه الكلي على المياه الجوفية عبر مشروع “النهر الصناعي “، هذا المشروع الحيوي ذاته بات عرضة للتهديد بسبب الاستنزاف المفرط وزيادة التبخر وارتفاع درجات الحرارة، مما يضع مستقبل البلاد المائي على المحك.
ثالثاً، تسجل البلاد معدلات حرارة قياسية تتجاوز المتوسط العالمي، هذا الارتفاع يزيد من حدة موجات الجفاف وتآكل التربة وتدهور الأراضي الصالحة للزراعة، التي تشكل بالفعل أقل من 1% من مساحة البلاد، مما يسرع من وتيرة التصحر ويهدد سُبل عيش المجتمعات الزراعية.
التوقعات والمخاطر المستقبلية
يتفق الخبراء على أن التكلفة الاقتصادية والبشرية لتغير المناخ في ليبيا سترتفع بشكل كبير ما لم يتم اتخاذ تدابير سريعة وفعالة، وتشمل أبرز التوقعات المستقبلية ثلاثة سيناريوهات مقلقة:
غرق السواحل الحيوية حيث سيؤدي ارتفاع منسوب مياه البحر إلى تآكل خط الساحل الليبي الممتد، مما يهدد المدن الساحلية ومناطق إنتاج النفط والبنية التحتية الحيوية ومحطات تحلية المياه، وقد يؤدي إلى نزوح وتهجير داخلي واسع النطاق.
تفاقم الأمن الغذائي اذ مع تزايد موجات الجفاف وتدهور الأراضي، سيصبح إنتاج المحاصيل وتربية الماشية أكثر صعوبة وتكلفة، مما يزيد من اعتماد البلاد على الاستيراد ويرفع أسعار الغذاء بشكل مباشر على المواطن.
الضغط على الطاقة والبنية التحتية فارتفاع درجات الحرارة يعني زيادة غير مسبوقة في الطلب على الطاقة الكهربائية لأغراض التبريد، مما يشكل ضغطًا هائلاً على الشبكة الوطنية، في بلد يعاني أصلاً من مشكلات في هذا القطاع.
الحلول والاستراتيجيات الوطنية
في خطوة إيجابية نحو الأمام، أطلقت ليبيا مؤخراً “الخطة الوطنية للتكيف مع التغيرات المناخية”، والتي ترسم خريطة طريق لا مفر منها لمواجهة هذه التحديات، وتتركز هذه الاستراتيجيات على محاور رئيسية:
تنويع الطاقة واستدامتها وذلك بالدعوة إلى خفض الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري كجزء من الالتزامات الدولية والتوجه نحو الاستثمار الفوري في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والتي تملك ليبيا إمكانيات هائلة لإنتاجها.
إدارة المياه الذكية بإصلاح شامل لنظم الري لزيادة كفاءة استخدام المياه في القطاع الزراعي الذي يُعد المستهلك الأكبر، بالإضافة إلى الاستثمار في تقنيات حصاد المياه وإعادة استخدامها، والعمل على حماية مصادر المياه الجوفية من الاستنزاف.
تعزيز المرونة العمرانية من خلال استثمار عاجل لإنشاء وتطوير نظم فعالة للتنبؤ بالعواصف والفيضانات، وتطوير البنية التحتية للمدن الساحلية لتكون قادرة على الصمود أمام الظواهر المتطرفة المتوقعة.
ولم تعد ليبيا بمنأى عن تبعات التغير المناخي، بل أصبحت مثالاً حيًا لتأثيره الكارثي. التقرير الوطني الأخير يمثل نقطة تحول للاعتراف الرسمي بالأزمة، لكن الرهان الحقيقي يقع الآن على سرعة وكفاءة تطبيق هذه الحلول على أرض الواقع، لضمان مستقبل البلاد المائي والبيئي والاقتصادي للأجيال القادمة.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية