زايد .. ناقص
جمعة بوكليب
لا أعرف عدد السنين التي تفصلنا، أمي وأنا، عن ذلك اليوم، الذي أُلتُقطتْ فيه لنا صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود. ولم أعدْ أذكر مَن التقط تلك الصورة، وما المناسبة؟ ولا أعرف، على وجه الدقة، السببَ الذي ذكّرني بها، الآن، في هذا الوقت، تحديداً، وأنا أصعد، سلالم الزمن في طريق ينحدر نحو مثوى أخير. ولا أدري، حقاً، إن كان تذكر تلك الصورة القديمة، حالياً، مبعث سرور وبهجة أم محرّك آسى وحزن.
الذاكرة الانسانية، في رأيي الشخصي، معقّدة حد المكر. وربما تفوق في شدة مُكرها أمكر الثعالب، وأكثرهم دهقنة. فقد تأتي أوقات تجعلك تشعر بأنها لم تَعُدْ صالحةً للاستخدام، بل وأضحتْ كغربال قديم اهتراه الزمن، لم يعد يصلح لشيء سوى أن يعلق على جدار في مطبخ البيت كذكرى أليمة. في أحايين أخرى، تشعر بأن ذاكرتك أصابها داءٌ غريبٌ، يجعلها تسير عكس اتجاه سير تفكيرك. وفي مرّات نادرة، تشعر أن ذاكرتك ليس، فقط، قادرة على أن تكون صديقاً وفيّاً، كريماً بل قادرة، أيضاً، على الوقوف بجانبك في أحلك الظروف والأوقات، والأزمات.
ثمة أوقات تصل فيها إلى قناعة مفادها أن للذاكرة، كبقية السلع، عمراً افتراضياً وتاريخ صلاحية لاتتجاوزه. لكنك، مثل غيرك من البشر، الذين خاضوا في تعاريج الأيام والشهور والسنين، وصالوا وجالوا في دهاليز الدنيا، تعترف لنفسك،متحسّراً، أن الذاكرة، بعد عقود من الزمن، تصبح مثل حصان أنهكه الزمن، وسرق منه حيويته وفعاليته، ولم يعد قادراً على تحمل ثقل أحمال جديدة، وفي حاجة ماسّة إلى تعامل من نوع آخر، يتفق والمرحلة العُمرية التي يمر بها. ومن الرحمة، بل ومن المسؤولية، أن تكون رحيماً ومسؤولاً نحوه، بألاّ ترهقه بما لا يطيق من أحمال جديدة.
ما كنتُ طويته لسنوات طويلة، ورميتُه خارج نوافذ رؤيتي وأهتمامي يعود، فجأة، بدون دعوة مني، ليلقي بحمل ثقيل في حِجْرِي، ليعيق حركتي، ويحبسني في لخبطة تفاصيل زمن ولّى، أو هذا، على الأقل، ما شعرتُ به في اللحظة التي ألقتْ فيها ذاكرتي، فجأة، بالصورة أمامي، فألتفتُ بقلب مضطرب، يموج بمشاعر مزيج من حنين وبهجة إلى تفاصيل ذلك اليوم البعيد، في تلك السنة المنسية، في ذلك المكان العتيق، وكأني كنت أتساءل: من ذلك الولد النحيل الذي يقف، في الصورة، إلى جانب أمه، واضعاً راحة يده اليمنى الصغيرة على كتفها الأيسر، في مكان غير واضح الملامح؟ هل ذلك الولد، النحيل، بقيمصه العربي الطويل الأبيض، وبفرملته، وسرواله الأبيض، و”كبوسه” الذي يغطي شعر رأسه، وبما يتالق في عينيه السوادوين من بهجة كان أنا؟
وهل تلك السيدة المستريحة في جلستها على حصير قديم، مرتدية رداءً أزرق اللون، يبدو من تحته فستانٌ بلون زهري، وتضع على رأسها تستمالاً أزرق، وهدوء ابتسامتها الوقورة، تضيء استدارة وجهها، هي أمي التي تتمدد ، الآن، مسجية على فراش في سرير، متكئة على وسادة، في غرفة، بشقة في عمارة مهترئة وقذرة، في الظهرة، وكأنها في أنتظار الذي يأتي ولا يأتي؟
أمي وأنا في صورة قديمة، عالقة في حنيّة من حنايا ذاكرة خطفتها محنة كهولة مرتعشة مبكرة، فبقت تتأرحج في فضاء أزمنة عديدة انقضتْ، تاركةً في القلب خيوطاً رقيقة من أصوات وضحكات بهيجة، لم تعد تُسمع، تحت قصف مدافع وهدير طائرات، في مدينة كانت، يوماً، على بُعدِ شهقةٍ من رحمة الله، ثم سقطت لقمة سائغة بين أنياب حرب ضارية، تدار من عدة عواصم، وبقتْ طراوتها في ذاكرة صورة.