طارق القزيري
سيظل رحيل صالح الابيض خسارة فادحة للكوميديا الفنية في ليبيا ليس فقط لأننا فقدنا ممثلا محبوبا. بل فقدنا المعادل النفسي لمجتمع يتعثر كل يوم ويحتاج الى نافذة متنفس.
بنى الرجل عبر عقود مدرسة ادائية كاملة تقوم على المزج بين الذكاء اللغوي والايقاع الحركي والقدرة النادرة على ضبط لحظة الضحك من دون ابتذال.
وصنع شخصية ليبية دافئة وواضحة في آن واحد، قادرة على ان تجمع العائلات حول شاشة واحدة، وتبني بين افرادها لغة مشتركة تعيد تعريف ما هو مباح وما هو جميل وما هو انساني وسط فوضى الواقع.
صالح الابيض قائد كوميدي لا مجرد مؤد. بموهبته – وهو من لم يدرس الدراما – يقود المشهد عبر إيماءات وجهه وإيحاءات جسده قبل الجملة، ويحوّل الارتجال الى فن منضبط بلا تهريج.
لذلك التف حوله الجمهور والزملاء معا، لانهم رأوا في حضوره معيارا للمهنة بل رقيا للأخلاق.
وهو من عرف – بشهادة مجايليه – كيف يربي الموهبة الشابة بالنصيحة القاسية حين يلزم، وبالابتسامة السخية دائما. وفي الادوار التي جسد فيها ليبيا بمدنها ولهجاتها ومزاجها، قدم صورة وحدوية نادرأ ما نراها فنيا وإن سمعناها كشعارات.
الخسارة ايضا بنيوية: فبرحيله تكشفت هشاشة قطاع لم تبن له مؤسسات تحفظ الارشيف وتدعم التدريب وتضمن انتقال الخبرة بين الاجيال.
دليل أن تنشر قنوان تلفزيونية أرشيفا له لم يشاهده الغالبية من قبل.
صالح الأبيض قام بفنه وبجهده الشخصي – ومن معه – وروحه الجامعة، فسد فراغا مؤقتا ظننا انه دائم. والان صار لزاما الاعتراف بان الضحك عنده لم يكن ترفيها عابرا بل خدمة عامة، علاجية وجمالية.
من هنا تصبح امانة ذكراه مسؤولية عملية: هل ستتحرك أي وزارة أو مؤسسة ثقافية – شرقا أو غربا – بجمع اعماله وتوثيقها، وانشاء ورش تكوين في الاداء الكوميدي، فتح مسارح صغيرة في المدن والاحياء، وادراج سيرته وطرائقه ضمن مناهج المعاهد الفنية.
هكذا فقط نحول الفجيعة الى بناء، ونمنح الجيل الجديد فرصة لالتقاط الخيط حيث تركه.
لان الضحك الذي علمنا اياه كان طريقة في العيش، وموقفا اخلاقيا من العالم، لا مجرد عرض مساء يوم عطلة، أو “تكسيدة ملل “، لنعود بعدها كما كنا مهملين لكل ما من شأنه أن ينمي روح الفن وعبرها الهوية والوحدة.
رحل صالح الجسد وبقيت المدرسة، ومكث السؤال لنا: هل نصونها بالفعل ام نكتفي بالتصفيق للذكرى؟
المدرسة التي شيدها صالح الأبيض لا تزال حية بقلوب محبيه، وتنتظر مؤسسات ترعاها، واصواتا شابة تواصل الطريق بثقة. وبعدل في الفرص والتعلم.