إطلالة
بقلم /جمال الزائدي
التطبيع مع الحياة في ظل الحرب لايمكن أن يتم تحت أي ظرف من الظروف ،إلا إذا استعاد الناس قدرتهم على ممارسة التفاصيل المعتادة حتى وإن كان ذلك يحدث في ظل شرط قاهر..هذا النمط الاستثنائي في وتيرة الحياة هو مايضع المجتمع أمام صورته الحقيقية ويكشف له قيمة المعدن الذي تتشكل منه نواته الصلبة ..كمستخدم شبه دائم للمواصلات العامة و “ الايفكو “ منها بشكل خاص أمكنني على سبيل المثال ان ارصد في سلوكيات رواد وسائل النقل العمومية بعض الشذوذ والخروج عن الاخلاقيات المعروفة في مراعاة أولوية حصول المسنين والنساء على مقعد للجلوس بل والتنازل لمصلحتهم عن اماكن مشغولة بالفعل ..لكن هذا الشذوذ يواجه مباشرة من قبل الاكثرية بالاستهجان والتوبيخ ..ذات مرة في سيارة الايفكو ومع وصولنا إلى الإشارة الضوئية باب بن غشير صعدت سيدة متوسطة العمر، تعاني من بدانة ظاهرة ولأن كل المقاعد الأمامية شغلتها نساء من مختلف الاعمار ،عدا مقعد واحد احتله شاب في بداية العشرين فقد اتجهت انظار الجميع اليه تستحث شهامته للتنازل عن مكانه ..وعندما تذرع بوقاحة التجاهل بادره ستيني كان يجلس بمقاعد الصف الأخير المخصصة للذكور حصرا طالبا منه بأدب التخلي عن مقعده للسيدة..؟
موقف مثل هذا الموقف على بساطته وهامشيته يبعث الامل في إمكانية النهوض حتى وإن سقطنا في قاع التوحش واللامبالاة بسبب الظروف الصعبة التي نعيشها ..سيظل لدينا دائما هؤلاء الذين يحرسون روح وأخلاقه المجتمع ويقاتلون من أجل انسانيته ..
مانشاهده بأم العين وما نسمعه يوميا من حكايات واحداث تعكس مدى القسوة وانهيار القيم وما وصلنا إليه من تدن في الاحساس والشعور بالآخرين ..كفيل وحده بزرع اليأس في النفس ..
أن يقتل رجل من أجل سيارة او جهاز موبايل أن يخطف طفل ويعذب من أجل ابتزاز والده ..أن يستغل البعض الظرف ويشعلوا النار في إيجارات البيوت لأن مئات الالآف من الليبيين نزحوا من بيوتهم بسبب الحرب..ان ينتهز آخرون ترك الناس منازلهم القريبة من مناطق الاشتباك ليسرقوا أثاثها ويقتلعوا بلاطها ورخامها .. كلها صور بشعة يمكنها ان تزعزع بل وتجتث ايماننا بالطبيعة الخيرة في مادة مجتمعنا ..لكن في مقابل هذه البشاعة والسواد توجد قصص أخر ..طفل نازح في صبراتة يجد حقيبة مال فيسلمها إلى قسم الشرطة ..فلاح في سوق الخميس أمسيحل يفتح أبواب بيوت أولاده الجديدة أمام عائلات هجرت من بيوتها دون مقابل .. رجل أسعاف يضحي بحياته من أجل انقاذ جريح في تقاطع نيران ..عشرات الحكايات المشابهة يمكنها أن تصنع شمسا أخرى تضيء بالأمل لتطمس وجه القبح والبشاعة..