منصة الصباح

صليبيّة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬جديد

بقلم /عبدالقادر‭ ‬العيساوي

ناصب‭ ‬الشركُ‭ ‬الإسلامَ‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬ظهوره‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬العداء‭ , ‬فتلك‭ ‬هي‭ ‬طبيعة‭ ‬البشر‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الكفر‭ ‬والإيمان‭, ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشرّ‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بعث‭ ‬الله‭ ‬الرسل‭ ‬مبشّرين‭ ‬ومنذرين‭, ‬وتمثّل‭ ‬الكفر‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬كفّار‭ ‬قريش‭, ‬حيث‭ ‬أذاقوا‭ ‬المسلمين‭ ‬أشدّ‭ ‬ألوان‭ ‬العذاب‭, ‬مما‭ ‬اضطرّهم‭  ‬إلى‭ ‬الفرار‭ ‬بدينهم‭ ‬إلى‭ ‬يثرب‭, ‬وهناك‭ ‬عملوا‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬صفوفهم‭, ‬وبناء‭ ‬دولتهم‭, ‬فاشتد‭ ‬عودُهم‭, ‬قويت‭ ‬شوكتُهم‭, ‬وبدأت‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬في‭ ‬بدر‭ ‬وأحد‭ ‬وغيرهما‭, ‬حتّى‭ ‬دخلوا‭ ‬مكّة‭ ‬فاتحين‭ ‬منصورين‭, ‬وامتدت‭ ‬الفتوحات‭ ‬ذلك‭ ‬لتشمل‭ ‬كافّة‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭, ‬لتبدأ‭ ‬بعدها‭ ‬مواجهات‭ ‬جديدة‭ ‬بين‭ ‬دولة‭ ‬الإسلام‭ ‬الناشئة‭ ‬وبين‭ ‬أعتى‭ ‬إمبراطوريتين‭ ‬للشرك‭ ‬آنذاك‭: ‬إمبراطوريّتا‭ ‬الفرس‭ ‬والروم‭, ‬ويحقّق‭ ‬الإسلام‭ ‬النصر‭ ‬عليهما‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭, ‬وينتشر‭ ‬الدين‭ ‬الجديد‭ ‬فى‭ ‬شرق‭ ‬المعمورة‭ ‬وغربها‭, ‬ويمضي‭ ‬الزمان‭ ‬دورته‭, ‬ويأتي‭ ‬الغرب‭ ‬الصليبي‭ ‬طامعا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬العرب‭, ‬ويحطّ‭ ‬جحافله‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬مصر‭ ‬والشام‭, ‬فتبدأ‭ ‬المواجهات‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬وتستمرّ‭ ‬لعدّة‭ ‬عقود‭ ‬حتّى‭ ‬تتوّج‭ ‬بالنصرلأهل‭ ‬البلاد‭ , ‬ويندحر‭ ‬الغزاة‭ ‬مجرجرين‭ ‬لأذيال‭ ‬الهزيمة‭, ‬لم‭ ‬تنفعهم‭ ‬عدّتهم‭ ‬ولا‭ ‬عتادهم‭ ‬التي‭ ‬جاءوا‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬ربوع‭ ‬القارّة‭ ‬الأوربيّة‭ ‬الصليبيّة‭.          ‬ويأتي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬لتعود‭ ‬جحافلُ‭ ‬الغزو‭ ‬الصليبيّ‭ ‬الأوروبيّ‭ ‬إلى‭ ‬بلادنا‭ ‬من‭ ‬جديد‭, ‬وتبدأ‭ ‬ملحمة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬ملاحم‭ ‬الجهاد‭ ‬والكفاح‭, ‬يسطّر‭ ‬فيها‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد‭ ‬ضد‭ ‬الصليبيّة‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬صفحات‭ ‬مشرّفة‭, ‬تنتهي‭ ‬برحيل‭ ‬المستعمر‭ ‬الغاشم‭ ‬بعدما‭ ‬غرس‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬جسماً‭ ‬غريبا‭ ‬متمثلا‭ ‬في‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيونى‭, ‬ويستمرّ‭ ‬في‭ ‬دعمه‭ ‬ضدّ‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬الأمّة‭ ‬بكلّ‭ ‬ما‭ ‬أوتي‭ ‬من‭ ‬قوّة‭ ‬وعتاد‭.‬
وبانتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالميّة‭ ‬الثانية‭ ‬تظهر‭ ‬قوّتان‭ ‬عظيمتان‭: ‬قوّة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬بزعامة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتى‭, ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭, ‬وأخرى‭ ‬فى‭ ‬الغرب‭ ‬بزعامة‭ ‬أمريكا‭ ‬متمثلة‭ ‬بحلف‭ ‬الناتو‭ ‬يتنازعان‭ ‬السيطرة‭ ‬ومناطق‭ ‬النفوذ‭ ‬والاستحواذ‭ ‬على‭ ‬باقي‭ ‬شعوب‭ ‬المعمورة‭, ‬وقبل‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬يأفل‭ ‬نجم‭ ‬الاتّحاد‭ ‬السوفيتى‭ ‬وينهار‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭, ‬ليعلن‭ ‬الغرب‭ ‬صراحة‭ ‬أن‭ ‬العدوّ‭ ‬المرتقب‭, ‬والكيان‭ ‬المستهدف‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭, ‬فيرون‭ ‬أنّ‭ ‬أيّ‭ ‬تقدّم‭ ‬وبناء‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬هو‭ ‬خطر‭ ‬داهم‭ ‬عليهم‭, ‬مهدّد‭  ‬لمصالحهم‭, ‬فنرى‭ ‬الغرب‭ ‬الصليبيّ‭ ‬الذي‭ ‬دعم‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيونيّ‭ ‬حتّى‭ ‬امتلك‭ ‬السلاح‭ ‬النوويّ‭ ‬يقف‭ ‬بكل‭ ‬شدّة‭ ‬وحزم‭ ‬ضدّ‭ ‬امتلاك‭ ‬أيّ‭ ‬دولة‭ ‬عربيّة‭ ‬أو‭ ‬إسلاميّة‭ ‬ذلك‭ ‬السلاح‭, ‬وعندما‭ ‬فاجأتهم‭ ‬الدولة‭ ‬الباكستانيّة‭ ‬المسلمة‭ ‬بامتلاكها‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬امتلاك‭ ‬جارتها‭ ‬وعدوّها‭ ‬اللدود‭ ‬الهند‭ ‬بفترة‭ ‬وجيزة‭, ‬نراهم‭ ‬يصفون‭ ‬ذلك‭ ‬الإنجاز‭ ‬بالقنبلة‭ ‬الإسلاميّة‭, ‬ونراهم‭ ‬يحبطون‭ ‬أيّة‭ ‬محاولة‭ ‬أخرى‭ ‬لامتلاكه‭, ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬بثّ‭ ‬الفرقة‭ ‬والخلاف‭ ‬والمواجهات‭ ‬الدامية‭ ‬بين‭ ‬بلداننا‭, ‬بل‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬البلد‭ ‬الواحد‭, ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬حالنا‭ ‬اليوم‭: ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المواحهات‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭, ‬بل‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الشرق‭ ‬الواحد‭, ‬ظهرت‭ ‬أحزاب‭ ‬وتنظيمات‭ ‬بأسماء‭ ‬متنوّعة‭:  ‬القاعدة‭ ‬داعش‭ ‬النصرة‭ ‬الشباب‭ ‬الإسلامى‭…‬الخ‭,  ‬حروب‭ ‬ومواجهات‭ ‬دامية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬البلاد‭ ‬لسنين‭ ‬طويلة‭, ‬فليس‭ ‬مصادفة‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬العروبة‭ ‬والإسلام‭: ‬‭ ‬الكلّ‭ ‬أخوة‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬يقتتلون‭, ‬والذي‭ ‬يُذكي‭ ‬نار‭ ‬الفتنة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬اتّخذ‭ ‬الإسلامَ‭ ‬عدوّاً‭ ‬له‭, ‬فلا‭ ‬نعجب‭ ‬إذا‭ ‬رأينا‭ ‬هذا‭ ‬العدوّ‭ ‬يدعم‭ ‬كلا‭ ‬الطرفين‭ ‬المتحاربين‭, ‬ويؤجج‭ ‬نار‭ ‬الفتنة‭ ‬بين‭ ‬الفريقين‭, ‬إنّها‭ ‬حرب‭ ‬صليبيّة‭ ‬بثوب‭ ‬جديد‭, ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الغرب‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرسل‭ ‬جنوده‭, ‬ويحرّك‭ ‬قوّاته‭, ‬بل‭  ‬يحيك‭ ‬مؤامراته‭, ‬ويجند‭ ‬عملاءه‭ ‬ومخابراته‭ ‬بعدما‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬يقوم‭ ‬بالمهمّة‭ ‬نيابة‭ ‬عنه‭, ‬وللأسف‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬الأمّة‭, ‬فهو‭ ‬يبني‭ ‬ويطوّر‭ ‬وينهض‭ ‬هناك‭, ‬ويعمل‭ ‬على‭ ‬القتل‭ ‬والتدمير‭ ‬هنا‭, ‬فهذا‭ ‬الأخطبوط‭ ‬اللعين‭ ‬قد‭ ‬غيّر‭ ‬نهجه‭, ‬وبدّل‭ ‬طريقة‭ ‬المواجهة‭ ‬المباشرة‭ ‬بمواجهة‭ ‬خفيّة‭, ‬يكون‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬دور‭ ‬التدبير‭ ‬والتخطيط‭ ‬والتوجيه‭, ‬وللآخرين‭ ‬بدلا‭ ‬عنه‭ ‬دور‭ ‬التنفيذ‭ ‬والتقتيل‭ ‬بين‭ ‬أخوتهم‭ ‬وبني‭ ‬جلدتهم‭, ‬فالمؤامرة‭ ‬التي‭ ‬تحاك‭ ‬ضدّنا‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬خافية‭ ‬على‭ ‬أحد‭, ‬ومن‭ ‬يقف‭ ‬خلفها‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يجهله‭ ‬أحد‭.‬
ترى‭ ‬لو‭ ‬أعددنا‭ ‬إحصائيّات‭ ‬لقتلانا‭ ‬ومهجّرينا‭ ‬ومعاقينا‭ ‬خلال‭ ‬الثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬الماضية‭ ‬‭ ‬بعدما‭ ‬انهار‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭ ‬‭ ‬بأيدي‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضا‭ ‬فكم‭ ‬نجده‭? ‬وإذا‭ ‬بحثنا‭ ‬على‭ ‬أصل‭ ‬البلاء‭ ‬والدمار‭, ‬والمُوقد‭ ‬والمستفيد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المواجهات‭ ‬والفتن‭ ‬فمن‭ ‬نجده‭?‬‭ ‬ولماذا‭ ‬يقع‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬إلّا‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭?‬‭ ‬والذين‭ ‬صار‭ ‬أهلها‭ ‬يوصَفون‭ ‬بالقتل‭ ‬والإرهاب‭, ‬مطارَدين‭ ‬أينما‭ ‬حلّوا‭, ‬غافلين‭ ‬عمّا‭ ‬يجري‭ ‬ويُدبّر‭ ‬لهم‭, ‬بل‭ ‬سُخّر‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬كمطيّة‭ ‬لذلك‭ ‬العدوّ‭ ‬الصليبي‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬ضدّ‭ ‬بني‭ ‬قومهم‭, ‬وصدق‭ ‬شاعر‭ ‬المهجر‭ ‬إيليا‭ ‬أبوماضي‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

الليالي‭ ‬غاديات‭ ‬رائحبالدواهي‭ ‬وأراكم‭ ‬تضحك

ما‭ ‬اتّعظتم‭ ‬بالسنين‭ ‬البارحة

لا‭ … ‬ولا‭ ‬أنتم‭ ‬غداً‭ ‬متّعظ

يا‭ ‬لهول‭ ‬الخطب‭, ‬يا‭ ‬للفادحة‭ ‬

أمّة‭ ‬تفنى‭ ‬وأنتم‭ ‬تلعب

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …