إطــــلالـــــة
بقلم : جمال الزائدي
التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي لا يصنعه التنظير والعناوين الصاخبة والمثيرة التي تتصدر أغلفة الكتب الضخمة ذات الطبعات عالية الجودة ..مثلما هو ليس نتاجا لانفجارات عنيفة نسميها ثورات أو انتفاضات أو حروبا أهلية . ريادة النخب وفاعليتها لا تتجاوز تأكيد الخيارات المجتمعية الكبرى التي ترسم إحداثياتها ظروف وشروط تاريخية تؤثر وفق آلية تبادلية على البنى التحتية والبنى الفوقية دون أولويات ثابتة…
ومع ذلك فالتغيير ليس خيارا جماهيريا تقرره ” الكتلة التاريخية” وفق المصطلح المادي ، كما يقرر برلمان دولة ما تحویل نظام الحكم من رئاسي إلى برلماني على سبيل المثال .. أو كما يقرر مسؤولوا الاقتصاد تحويل النشاط الانتاجي لدولة ما من الزراعي إلى الصناعي..
الأمر أكثر من معقد ، والعوامل الداخلة فيه متشابكة إلى درجة يصعب تفكيكها واستنباط قوانين عامة لآليات اشتغالها ..ناهيك عن الإشكالية الجذرية التي تطرحها الهوية الثقافية في الاستجابة لمحرضات وضرورات التطور والتغيير، حيث هنا في هذه المنطقة من ينظر إلى مسائل أساسية ، كحق التعبير والاعتقاد والضمير والانتخابات وحرية المرأة والمساواة ، كمفاهيم مضادة للثقافة والعقيدة المحلية ذات الخصوصية المقدسة .. وفي هذه اللحظة الراهنة من التاريخ الانساني ، حيث تضمحل الحدود الفاصلة بين المجتمعات البشرية حتى درجة التلاشي ، بفضل الطفرات المتتالية والمذهلة لتكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات ، والتغول المرعب للنمط الرأسمالي الذي حول الكوكب إلى سوق كبير تتداول فيه المنتجات المادية والرمزية على نحو أكثر كثافة..يتحول التغيير من مجرد رؤية نقدية نخبوية لمسارات المجتمع التاريخية، أو من مجرد ضرورة داخلية يفرضها الوعي الجمعي العام ..إلى خضوع تام أمام اكتساح خارجي يغزو المجتمعات المحلية في صميم خصوصياتها التي تتعرض للتفسخ وإعادة الخلق وفق مقتضيات هوية كونية تروج لها الثقافة المنتصرة..
سنستغرق وقتا طويلا في استهلاك مصطلح المؤامرة لوصف ما جرى ويجري في بلادنا وبلاد أخرى قريبة ..ولن يقودنا ذلك إلى شيء سوى تجذير الاحساس بالمرارة والهزيمة ، ولن نتقدم خطوة واحدة يتيمة في طريق الوعي والفهم لحقيقة ما جرى ومازال يجري على امتداد هذه الجغرافية السياسية والثقافية المنكوبة من حروب وتشظيات تطال النسيج الأساسي للمجتمعات..وما لم نتعلم كشعوب وكنخب كيفية التعامل بواقعية وتواضع مع حقائق العالم الذي نعيش فيه أو بالأحرى نعيش على هامشه حتى الآن ، فإن رياح التغيير ستقتلع مضارب قبائلنا من جذورها دون أن نعرف حتى كيف ولماذا حدث لنا ذلك ..
ربما أن هذا الطور الانتقالي الذي تعيشه منطقتنا سيمتد عشرات السنين القادمة قبل أن يسفر عن واقع و بنية جديدة ، وربما تكون نتائجه مرصودة ومتوقعة بالنسبة لمن يديرون شؤون الكوكب ويتحكمون في قوانين اللعبة ..لكننا سنبقى شهود زور على مستقبل غامض پرسمه الآخرون لأجيالنا القادمة ..