منصة الصباح

حينَ ضحكتْ شجرةُ الزيتُون

حينَ ضحكتْ شجرةُ الزيتُون

جمعة بوكليب

زايد…ناقص

كان الشيخُ، كعادته، ينقّل خطواته في الطريق على مهلٍ، سائراً بقلب مثقلٍ بأحمال زمن لا يشبه ما عاش قبله من أزمان، وقد أسلم طواعية قياده إلى صبي نحيل، لم يبلغ العاشره من عمره بعد، التقاه صدفةً واقفاً أمام باب بيته. لا يعرف ما الذي أتي به، ولا من أين جاء. لكنّه عرض عليه مرافقته فوافق. تبيّن للشيخ أنّه لم ير الصبي من قبل. وأتضح للصبي أن الشيخ يعاني من الوحدة، وفي حاجة إلى رفيق وأنيس ينفض عن قلبه وروحه ما تراكم فيهما، بمرور الوقت، من غبار ووحشة.

تركَ الشيخُ للصبي اختيار الطريق، آملا أن يسير به في طرق لم تطرقها قدماه من قبل. فقاده الصبيُ في طرقات بنمعطفات متعرّجة ومتعددة، لا عهد له بها من قبل. كان الصبيُ نحيلاً بشكل لافت. مرتدياً أسمالاً، عاري الرأس، وحافي القدمين، ولا يتوقف عن الكلام.

اكتفى الشيخُ بمرافقته من دون سؤال. كان الشيخ قد وصل، منذ وقت مضى، إلى قناعة بأنه لم يعد، في هذا الزمن، من داع للأسئلة. الأسئلة تنهض فجأة إذا قابلنا غموض، أو غمرتنا حيرة. لكن إذا كان الوضوح سيد الزمان فلا ضرورة تستدعيها. لذلك، كان مستأنساً بما كان يرويه الصبيُ من حكايات، ومتعجّباً من خصوبة وغرابة خياله. واصل السير، وكأنه يريد أن يعرف إلى أين سيقوده صبيٌ التقاه صدفةً، واقفاً أمام باب بيته، في صباح مدينة لم تعد تثير اهتمامه، لكثرة مأ ألم بها وبأهلها من تغيّرات في الأعوام الأخيرة. سارا معاً مترافقين، حتى وجدا أنفسهما قد ابتعدا عن شوارع المدينة وتعرّجاتها، وأنتصف عليهما النهار. فتوقفا طلباً لراحة. جلسا تحت أغصان شجرة زيتون وحيدة وارفة الظلال.

قال الصبيُ للشيخ: حان دوركَ في الكلام الآن. حكيتُ لك كل ما أعرفه.

ابتسم الشيخ، لكنه لم ينطق حرفاً. قال الصبي: أريد سماع حكاية منك.

قال الشيخ بصوت يشبه الهمس، وكأنه يكلم نفسه: لقد هجرني الكلامُ منذ سنين طويلة.

قال الصبيُ: لماذا؟

لم يرد الشيخُ. فألحَّ عليه الصبيُ أن يعطيه جواباً. قال الشيخُ، بصوت يشبه الهمس، وكأنه يكلم نفسه: هل ترى شجرة الزيتون هذه التي نستظل بظلال أغصانها؟ هزّ الصبيُ رأسه بالايجاب. قال الشيخُ: لماذا لا تسألها؟ تعجّب الصبي محتاراً، وابتسم. قال الصبي الشجرُ من النبات، ومثل الطير والدواب لا ينطق. قال الشيخُ: لو سألتها أجابتك. التزم الصبيُ الصمت، ظانّاً أن الشيخ يهزأ به. سأله الشيخُ: أيكما أكبر عمراً أنتَ أم الشجرة؟

حدّق الصبيُ بنظره في جذع الشجرة متأملاً، ورفع عينيه إلى أعلى متمعناً في علو أغصانها. قال: أعتقد انها في مثل عمرك.

فساله الشيخُ: وكيف عرفتَ؟

رد الصبيُ بصوت واثق وهاديء، لأن الكلام هجرها .. مثلك

تعجّب الشيخ من نباهة رد الصبي. وقال له: لكنك لم تسل الشجرة. نهض الصبي من جلسته واقفاً. وقال للشيخ إني مفارقك الآن.

سألة الشيخ: إلى أين؟

رد الصبي: إلى ما لا أعرفُ وأجدُ؟

سأله الشيخ: وأين يقعُ ذلك؟

قال الصبي: حيث أصله وألقاه ذلك موضعه.

قال الشيخ: إذاً وداعاً.

ردّ الصبي: وإذا التقيتك ثانية؟

قال الشيخ: لن تلقاني.

قال الصبيُ مشيراً بيده للشجرة: انتظرها حتى تنطق.

قال الشيخُ ملوّحا بيده: إلى لقاء قريب.

قال الصبيُ: في المرّة الأولى قلت لي وداعاً، وها أنت تقول إلى لقاء قريب. وقلت فيما سبق أنك لن تلقاني. لما لاتستقر على رأي؟

فضحكت شجرةُ الزيتون.

شاهد أيضاً

” حافة الموت “

د ابوالقاسم عمر صميدة بين حافة الموت وحافة الحياة هناك مسافة ومساحة هناك منطقة رمادية …