دفق
بقلم /سعاد الوحيدي
طالما غرّد قلبي لتلك الصورة الأسطورية لمقاومة الشعب الفيتنامي، وإنتصاره التاريخي على أمريكيا، (وكان من الطبيعي أن تصطف قوى اليسار العالمي وراء هذا الكفاح العادل). ولكن، ما لم أكن اعرفه، أن ثمة إشكالية موجعة، تقبع وراء هذه الصورة. والتي ستحفر في داخلي ودياناً من الوجع، وتتأكد كأصعب الملفات التي ما فتئت تقلقني؛ أنها قضية «مسلمي فيتنام».
لم يكن سراً أن من خاض الكفاح المسلح ضد الأمريكان في فيتنام، هم فصائل الكمير الحمر الشيوعية. ولم يكن سراً أن مسلمي فيتنام لم ينحازوا لهم، (وقد كانوا ينحازون في الشيوعية خروجاً عن الدين). وأختاروا بشكل عفوي، صف المقاومة الجنوبية المعارضة للشيوعية، وهو التيار الذي تحالفت معه أمريكيا. وبالتالي لن يكون سراً أن يحصد المسلمون في فيتنام نتائج هذا الموقف بعد هزيمة أمريكيا، التي غادرت فيتنام وتركتهم لقدر عاصف من الجحيم. وحيث تم الفتك بالآلاف منهم، وأضطر أغلبهم لمغادرة فيتنام.
هذا التغير الديمغرافي جعل تعداد المسلمين في فيتنام اليوم (وكانوا أكثر من مليونين)، لا يزيد عن مائة وخمسين الفا. (لهم، بالإضافة إلى مسجد هانوي الكبير، عشرين مسجداً بسايغون، وستين مسجداً في مناطق الجنوب). وإذ تمكنت الجهود العربية/ الاسلامية (الدبلوماسية)، من التدخل لحماية هذه المساجد من التهديم، الا أن المناخ السياسي الطارد، عرقل النمو العمراني/ والبشري الاسلامي في المنطقة. وانغلق المسلمون الذين بقوا في الديار – عن عجز حال اليد في الاغلب- على انفسهم. وتقوقعوا في تجمعات متواضعة الحال، تشكل افقر مناطق فيتنام. خاصة القاطنين منهم حول الحدود الكمبودية، والذين قصدوها في هجرة داخلية، للاقتراب من اخوانهم في الدين هناك،(تضم كمبوديا أكثر من مليون مسلم). في الشتات توزع مسلمو فيتنام عبر العالم، (بماليزيا قرابة العشرين ألفا، وفي أمريكيا عشرة آلاف، وعشرة آلاف في أستراليا، ومثلها بفرنسا، منهم ستة آلاف في باريس). هذه الحقيقية الأخيرة، كانت قد شكلت لي مفاجاة نوعية. فرغم إهتمامي البحثي بالأقليات المسلمة في الشرق الأقصى، إلا انني أخرت البحث حول مسلمي فيتنام وكمبوديا لسنوات. لأكتشف أن أكبر الجاليات الفيتنامية المسلمة المهاجرة، قد استقرت على خطوات مني. وأن هوية عشرة آلاف مسلم فيتنامي في فرنسا، كانت تدور حول كوخ متهالك، تعصف به الرياح والمطر بضواحي باريس. الوجع المُضاف لعذابات أقلية كان صبرها على معتقدها كالقابض على جمر.شيخ الجالية هارون صالح، يرى مع ذلك، في وجع الشتات «ضارة» نافعة: «من حيث تدخل الهجرة في صقل الهوية، وتوحيد الصف، والإلتفاف حول هذا المكان المتواضع لتعلم أصول ديننا وثقافتنا …(يضم الكوخ ثلاث حجرات/ ثلاثة فصول لتعليم اللغة العربية وأصول الدين). بذلك نقاوم الإنصهار، ونقهر الشتات. وبفضل هذه المقاومة، أصبحنا أعلم بديننا، وأعلم بهويتنا». حول هذه الفكرة يفصّل الشيخ هارون:»بواقع تحولنا الى أقلية في بلد غير مسلم، كان يجب أن نسارع لحماية موروثنا الحضاري الخاص.
فرغم أننا كنّا في فيتنام اقلية، بالمقارنة مع عدد غير المسلمين، لكننا كنا أغلبية في مناطقنا. وقد كانت تضمنا قرى عن بكرة ابيها مسلمة. بل ثمة مناطق من فيتنام لا يسكنها غير المسلمين؛ مثل مقاطعة تشاو دوك، حيث تنتشر المساجد ونسمع الآذان في كل مكان،.
.. هنالك لم نكن نشعر بأننا اقلية، لاننا كنا محاطين بوجود مسلم متكامل». ويشدد:»نحن لا نملك ثروة أو مال (تمثل الجالية شريحة نادرة لهجرة عمالية كادحة)، لذى فكرنا أن نترك لهم ثروة خاصة، بل ثروة عظيمة هي «معرفة الإسلام»؛ المعين الذي لا ينضب». هكذا في الشتات نهض الآباء الرواد لترجمة القرآن وأصول الفقه والسيرة النبوية للغة الفيتنامية. وقد اتجهت المقاومة نحو التأسيس المعرفي، وتجدير الهوية، (المعركة التي شارك فيها علماء الشتات كافة).معرفتي بهذا الشتات غيّرت تصوري «الفائق»، عن انتصارات الشعب الفيتنامي ضد أمريكيا. وكيف إن جزءاً من أمتنا عاش هذا الانتصار كلحظة انكسار تاريخي. ولكن كأن ذلك لا يكفي، سيتعرض هولاء لإنكسار مُضاف في باريس. عندما «رفضت» حكومات «الأمة»، مساعدتهم في بناء مسجد يليق بهذا الصمود.ولكن، لأن البسطاء وحدهم من يملك الإحساس بوجع البسطاء، تمكن بعض الكادحين -وليس إي دولة- من أن يمنحوا للمسلمين الفيتناميين مسجداً جميلاً، في العاصمة الجميلة.