منصة الصباح

سجنُ الغربة

زايد…ناقص

          جمعة بوكليب           

 

طوال السنوات التي قضيتُها مهاجراً في بريطانيا، لم يكن الحنينُ إلى الوطن يطرقُ أبوابي إلاّ نادراً. ليس لأنّه ضلَّ الطريقَ إليَّ، أو لأننّي تعمدتُ الهروبَ من لقائه. ولا يعني كذلك أننّي في خضم ما كان يقابلني يومياً من مصاعب نسيتُ بلادي وأهلي، أو تجاهلتُ موطني وطفولتي وأحبتي. لكنّي، ومنذ البداية، حين اتخذتُ قراري بحزم حقيبتي، والبحثُ عن موطأ قدم لي، على بقعة أرض أخرى، لم يكنْ الالتفاتُ إلى الخلف، والتحسّرُ على ما تركتُ ورائي، على قائمة أولوياتي.

التركيزُ، طوال الوقت، على  السير بقدمين  غير مترددتين،  والحفاظ على توازني النفسي،  والتصميمُ على النجاح، دفعني إلى مجابهة ما ترميه الغربة في طريقي . تلك التحدّيات، أحالتني إلى كائن بشري آخر، يخوض في تضاريس وعرة.   أستغرق الأمر وقتاً طويلاً، قبل أن أتوقف مستريحاً وملتقطاً أنفاسي، وفي ذات الوقت، مستشعراً نوعاً من الإرتياح الشخصي، لما تمكنت من تحقيقه. وحين استأنفت مواصلة الرحلة، اكتشفت أن الزمن،  في غفلة منّي، سرقَ أجمل سنوات عمري، وأن ايقاع خطوي لم يعدّ كالسابق، وأن سرعة دقات نبض قلبي تباطأت. وأننّي، رغماً عنّي، في حاجة إلى اعادة النظر في قائمة أولوياتي، بعد أن كبر الأولاد، وغادورا العشَّ الذي بنيته لهم، لتحقيق طموحاتهم وأحلامهم. وباختصار مفيد، كان علىَّ البحث عن مسار جديد، ومختلف لكي تتمكن حكايتي من مواصلة طريقها، واستكمال تفاصيلها. كان مجرى نهر السرد في البداية محصوراً بين ضفتين، وفي اتجاه واحد للامام. لكن في المرحلة التالية، بعد بلوغ سنّ التقاعد تحديداً، صار لزاماً على السرد أن يغير اتجاه مجراه، ويصير مثل ” نهر العاصي” في لبنان، أي أن يسير في خط سير مخالف لما تعارفت عليه الأنهار. هذا يعني حرفياً فتح الاأبواب والنوافذ على الماضي، في دعوة صريحة للحنين لكي يجيء،  ليفترس ما تركتْ منّي سنواتُ الغربة.

الحنين يحيلُ، مباشرة،  على الماضي، ويُحفّز الذاكرة على نفض الغبار العالق فوق ما ظل خامداً على رفوفها، طوال سنين،  من ذكريات.  وحين تحضر الذكريات يحضر الوطن. وللأسف ، فإن الوطن لايأتي مرفوقاً ببهجة وفرح، بل مقروناً بآسى وأشجان. وكأن الحكاية التي تبدأ بخصومة الوطن وتركه، واختيار الهجرة، تفضل أن تسير في خط دائري، يبدأ من نقطة فراق حزينة، وبعد أعوام طويلة تعود إليها. تلك العودة المحزنة، تشبه عودة الأبن الضال من حيث الشكل، لكنها تتعارض معها في المحتوى.

الغربةُ سجنٌ،  لكن من نوع آخر. كلاهما يحرمك من التواصل مع أحبتك، ويفرض عليك مسارات حياة منفصلة عنهم ومغايرة. لكنك، بعد قضاء سنوات مديدة أخرى، في بلاد الله الواسعة، حين تقرر، ذات يوم،  العودة إلى مسقط رأسك، لتلتقي بأهلك وأحبابك، تكون في حقيقة الأمر كالمسجون الذي يغادر أبواب وأسوار سجنه بعد غياب.  وحين يصل سالماً إلى بيته، يحرص في يومه الأول والثاني على قضاء كل الوقت مع أهله وأحبته. لكنه في اليوم الثالث   تنتابه رغبة للخرج إلى الشارع، والتمتع بحريته المستعادة، ومحاولة تجسير هوة الانقطاع بين ذاكرته والواقع الجديد الذي لا يعرفه.  عندها، وهو يدور وحيداً في الشوارع التي ظل يفتقدها في سجنه، بحثاً عن وجوه يعرفها، يكتشف أن كل الوجوه التي يلتقيها تغيّرت. ويكتشف أن التغيّر قد طال ملامح وجهه أيضاً. لكنه،  في قرارة نفسه،  يتمنّى على الله ألا يكون التغير قد طال ملامح وجه واحد. وجهٌ امرأة أحبها،  واستضاء مستدفئاً بنورها في أحلك لياليه عتمة وأشدّها برودة.

 

شاهد أيضاً

كتاب “فتيان الزنك” حول الحرب والفقد والألم النفسي

خلود الفلاح لا تبث الحرب إلا الخوف والدمار والموت والمزيد من الضحايا.. تجربة الألم التي …