في خطوة تهدف بوضوح إلى تحويل الإدانة الجنائية إلى “ولادة جديدة” سياسية وشعبية، أصدر الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، كتابه الجديد “مذكرات سجين” (Mémories d’un détenu) الذي يروي فيه تفاصيل أيامه القاسية خلف قضبان سجن “لا سانتيه” في باريس. لكن الرواية، التي حاول ساركوزي عبرها صياغة أسطورة جديدة له كضحية للظلم، تطرح تساؤلات جدية حول مدى نجاحه في محو صفة “الرئيس المدان” من سيرته.
تأتي هذه المذكرات، المكتوبة بوتيرة مدهشة (أكثر من 10 صفحات يوميًا)، بعد إدانة ساركوزي في سبتمبر الماضي بتهمة التآمر لتمويل حملته الانتخابية عام 2007 بأموال ليبية، وهي تهمة حساسة تمسّ جوهر النزاهة الديمقراطية.
ورغم خروجه المبكر بانتظار الاستئناف، تظل حقيقة السجن بانتظار البتّ في استئنافه، هي الصفة الأقسى التي التصقت برئيس لطالما عُرف بشعار “القانون والنظام” وبمقولته عام 2012: “يجب على المحاكم الفرنسية أن تعاقب، لأن كون المرء مجرماً رفيع المستوى أسوأ بكثير من كونه مجرماً عادياً”.
في الكتاب، يصف ساركوزي تجربته بأنها “جحيم”، ويروي تفاصيل قسوة المرتبة “الأقسى من الطاولة”، والأصوات المزعجة لنزلاء آخرين. ومع ذلك، يكشف عن واقع مختلف في “جناح الشخصيات المهمة” الذي تمتع فيه بتلفاز خاص ودُش وثلاجة، ومُعاملة تفضيلية مقارنة بغيره من السجناء “الذين لا يراهم أحد”.
وفي محاولة بالغة الجرأة لاستدرار التعاطف وتصوير نفسه كضحية، قام ساركوزي بمقارنة تجربته بألفريد دريفوس، وهو ضابط فرنسي أدين ظلماً في قضية مشهورة بمعاداة السامية. هذه المقارنة أثارت استياءً واسعاً، فبينما كان دريفوس ضحية للاضطهاد الظالم الذي سعت فرنسا لاحقاً لتصحيحه، يواجه ساركوزي تهمة جنائية خطيرة متعلقة بالفساد السياسي وأموال دولة أجنبية.
كما تعمّد ساركوزي إبراز مظاهر الدعم التي تلقاها، من رسائل المعجبين التي فاقت ما كان يتلقاه كرئيس، إلى زيارات زملائه السابقين، كوزير العدل الحالي جيرالد دارمانين، الذي أثارت زيارته ضجة كبيرة. وهو يروي كيف اصطفت العائلات حول موكبه المتجه إلى السجن، مشبّهاً هذا المشهد بالحشود التي هلّلت له ليلة انتخابه، في محاولة لإضفاء شرعية شعبية على إدانته القانونية.
إن “مذكرات سجين” هي، في جوهرها، عملية تطهير سَرْدِي (Narrative Cleansing) فساركوزي لا يروي تجربته كإنسان أخطأ، بل كسياسي بريء يحاول الخروج من السجن بنفس “منصبه” وشرعيته السياسية.
لكن ما يثير الانتباه في كتابه المكون من 213 صفحة هو الغياب شبه الكامل للتعاطف مع زملائه السجناء، لقد صور نفسه كرجل “مختلف” وبريء يعيش ما لا يتصور، متجاهلا واقع المؤسسة العقابية وقسوتها على النزلاء العاديين، وبدلاً من أن تكون فترة السجن مناسبة للتفكير العميق في أفعاله التي أدت به إلى هذا المصير، حولها ساركوزي إلى منصة للادعاء بالبراءة وتأكيد الذات السياسية.
في النهاية، ورغم كل محاولات ساركوزي لتأكيد أنه “دخل السجن رئيساً وخرج منه بنفس المنصب”، يبقى الواقع القضائي أكثر قسوة: لقد دخل نيكولا ساركوزي السجن مداناً بقضية فساد وتآمر. والكتاب، على الرغم من تصديره، ليس “رواية”، بل هو وثيقة تهدف إلى تلميع صورة رئيس مدان، لكنها تكشف، دون قصد، مدى عمق عزلة السياسي اليميني عن واقعه القانوني والشعبي الجديد.
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية