بقلم / منصور بوشناف
الأغنية الأيطالية عن “سيبرينيتسا” تلخص حربها الثانية ضد العنصرية والتمييز والقتل على الهوية، ولكنها وحسب تلك الأغنية الايطالية حرب ضد الذات، بالتحديد ضد “الأجنة” التي زرعت في الأرحام اثناء الحرب والتقتيل والأغتصاب، فهي حرب نساء تم اغتصابهن من قبل جنود الأعداء وزرعوا في ارحامهن اجنتهم العدوة، لتكبر تلك الأجنة كسرطان قاتل في تلك الأرحام.
الأغنية تمزج بين الدفوف الصوفية الأسلامية واصوات الرصاص واصوات نساء منكسرات مستسلمات لقدر يفوق الموت، قدر حمل اجنة اولئك العنصرين الغزاة في ارحامهن، انهن حاملات اوزار الحرب ونتائجها البغيضة، فبعد انتهاء الحرب والتقتيل والأغتصاب يكتشف الأهل والمجتمع المحافظ انهن ملوثات ومصابات باللعنة، وانهن يحملن في ارحامهن ابناء الغزاة، يقدم بعضهن على الأنتحار لقتل بذرة العار،كما يراها المجتمع المحافظ المحتقن، وتنجب الأخريات ابناء الغزاة وابنائهن.
وسط سكون مقبرة تخاطب المغتصبة وليدها بعد الولادة وهو لايزال مشدودا لها بالحبل السري، وسط ذلك السكون تخاطبه قائلة “ها انت تولد مني، متفتحا مشرقا، اموت انا لتولد انت كزهرة تتفتح على قبر كئيب”، اذن تحمله طفلا بريئا كزهرة تتفتح لتتحول هي الى القبر الكئيب الذي يحمل ويغذي ويرعى تلك الزهرة اليانعة.
وليكون ايضا سرطانها ولعنتها التي تنهش روحها وجسدها حتى الموت، كلما اشرق اظلمت وكلما تعافى وكبر ذوت وتلاشت حزنا وعارا.
زهور مقابر ليبيا قد لا يشكلوا مشكلة مباشرة، فلم يثبت رغم كل الكلام الاعلامي الذي استخدم كسلاح دعاية من الطرفين المتقاتلين انه وجد بشكل حقيقي الا في حالات شديدة الندرة ان لم يتعدم تماما ولكن لليبيا زهورها المختلفة عن تلك “السربينيتسيه”، هي زهور مقابر من نوع اخر،انها تلك التي تغذت ونمت من رحم السلاح، وقبله من ذلك الفراغ المريع الذي ملأ حياتهم منذ الولادة وحتى الآن.
كان الشباب الليبي يعاني طوال سنوات طويلة من اليأس والاحباط والفشل وغياب الامل في مستقبل يكفل حياة كريمة، كان الشعور بالعبث واللامعنى يظلل افاق حياتهم ومستقبلهم.
كانت المخدرات وكان التدين ثم التطرف الديني ابرز علامات التعبير عن رفض كل ذلك الاحباط وغياب المعنى والمستقبل.
كان المشروع الاسلامي ابرز المشاريع السياسية التي طرحت امام اولئك اليائسين كبديل للقائم المظلم وكمشروع شامل قادر على علاج كل الاحباطات والتفسخ.
كانت نزعة عدمية تنمو وتترسخ، ترى في الماضي وانتصاراته وانجازاته بديلا ليس مقنعا فقط بل واجبا ومقدسا، كان طريق الجهاد والشهادة الطريق الاوحد للخروج من المأزق التاريخي، لتكون افغانستان المحج والطريق الى المستقبل المنجزماضيا والقابل للانجاز مستقبلا.
على الجانب الاخر اخذت تلك النزعة العدمية شكل الانتحار الذاتي والاجتماعي عبر المخدرات والهروب من الراهن المرير.
في هذا الرحم تشكلت زهور مقابر ليبيا، ومع تفجر ثورة فبراير وماصاحبها من عنف،تفتحت تلك الزهور بتربة ليبية وسماد مستورد من بقاع شتى من اركان الماضي والعدم
كان السلاح اداتها الاولى في التعبير عن الوجود والمعنى وتحقيق المستقبل، “كان على هذي الأمة ان تأخذ درسا في التخريب” كما يقول مظفر النواب.
انتصرت الثورة ليرتبط فعلها بالسلاح، ولترتبط ممارسة الثورة بالسلاح ولاشيء غيره بالنسبة لهؤلاء العدميين الضحايا.
لم تستطع القوى المستنيرة ولا الذين قادوا البلاد بعد الثورة ان يتقذوا هؤلاء العدميين من عدميتهم ولا ان يقدموا مشروع الثورة الحاضري، لم يصبح المستقبل الا انتقاما من الماضي بادوات الماضي
زهور مقابر ليبيا تتفتح وتنمو رصاصا وقتلا وخطفا وتعذيبا وتدميرا للبلاد وللذات ايضا، انهم “العادلون” كما قدمهم “البير كامو” يقتلون وينتحرون ولا يرون العدل والمستقبل الابتدمير كل الماضي من اجل ماض ابعد واكثر عزلة وكأبة.
لتغني القبور لكل واحد منهم ” اموت انا لتولد انت، كزهرة تتفتح على قبر كئيب”