جمعة بوكليب
كانت طرابلس قد أنتهت من صلاة فجرشتائي، وتتهيأ للدخول في تفاصيل نهار جديد بقلب قلق، على عادتها، في السنوات الأخيرة. وكانت شمس الصباح على وشك أن تعلن حضور اشراقها ودفئها. وكانت صالة الركاب في مطار معيتيقة، ذلك اليوم، تضيق بضجيج ازدحام المسافرين. وكنتُ، أنا، قد وصلتها مرفوقا بأثنين من أخوتي، بغرض السفر إلى تونس على متن رحلة شركة الراحلة. الازدحام البشري في الصالة خلق لديَّ إحساسا بأن نصف سكان طرابلس، على الأقل، كانوا متواجدين هناك، وقد حزموا حقائبهم، وتعجلوا مثلي الوصول إلى المطار، بغرض السفر. تبيّن لنا أن موعد فتح الرحلة لم يحن بعد. أقترح أخي الأصغر أن نقف في المكان المخصص لاصطفاف المسافرين ، وبذلك تتاح لنا الفرصة لتأكيد حجزنا وسفرنا مبكراً، والتخلص من الحقيبة، ويتوفر لنا وقت، قبل افتراقنا، لاحتساء فنجان قهوة معاً.
استحسنت الفكرة، وأتجهت نحو المكان المخصص، أمام مكتب الراحلة، ووقفت في أول الطابور. كنت أراقب موظفي الشركة أمامي، وهم يعدون العدة لفتح الرحلة، وأنشغل أحد أخوتي بهاتفه المحمول ورائي، في حين أن الآخر خرج من الصالة لتدخين سيجارة. أقترب شاب منا، وبدا عجولاً، وعلى ملامح وجهه ارتسم توتر ملحوظ. كان يضع بطاقة تعريف صغيرة على الجانب الايسر من سترته، تؤكد انه من العاملين بشركة الراحلة، وحاملا في يده اليمنى حزمة من جوازات سفر.
لدى الاعلان عن فتح الرحلة، تقدم حتى وقف بجواري أولاً، ثم تجاوزني، ووقف أمامي، أخيراً. انزعجت من تصرفه، والتفت نحو أخي متعجباً. ابتسم ابتسامة تدل على أن تصرف الشاب عادي، وبعبارة أخرى ” ما تعدلش”. لكني لم استسغ تصرف الشاب، ولم استطع هضمه. قلت للشاب بأدب: عفواً يأأخي، أنا قبلك في الطابور. التفت نحوي بعينين تجمّع فيهما غضب الدنيا والاخرة، وقلبني من فوق لتحت وبالعكس، ثم تحرك قليلا للجنب، مفسحا لي الطريق، وقال بصوت عال: تفضل يامحترم. أنا موظف في الشركة. تقدمت خطوتين وأخذت مكاني، وأنهيت معاملتي.
تبين لي فيما بعد أن الشاب كان حاضرا لتقديم يد المساعدة في تسفير أسرة كاملة، لاأدري ان كانت أسرته أم أقرباء له، وأنه لو صبر قليلا بالوقوف خلفي في الطابور، لكان أنجز معاملته بعدي في دقائق قليلة. عمله في الشركة غير مبرر أطلاقا لتجاوز غيره. وكان من الاجدر والافضل له ولي ولغيرنا من المسافرين لو أنه أنتظر دوره، دون الحاجة لتجاوزي، والاعتداء على حقي جهارا نهارا، ” ولا حشم ولا جعره”.
يبدو أن الاستعجال، وفقدان القدرة على الصبر آفة انسانية تصيب الجميع، الصغار والكبار على السواء، ومن الجنسين. وكأن الحاجة إلى التعجل ضرورية حتى وإن لم يكن هناك داع لها. ورغم ذلك ، ولدفع التهمة عنهم، يصر الناس ويؤكدون في أمثالهم وثقافتهم الشعبية على أن العجلة من الشيطان!
لم أعرف، حتى الآن، وأنا في الربع الأخير من عمري، كيف تم الربط بين الاثنين، ولماذا. في الوقت الذي نعرف فيه أن الشيطان وجد من عهد أبينا آدم وأمنا حواء، ومازال يجوس ويحوس بيننا إلى نهاية العالم، ولا تتوفر أدلة، حتى الآن، على حاجته للتعجل في قضاء حوائجه. بل أنه كما تبين بالتجربة يمقت التعجل، وعلى عكس الانسان، يفضل أن يقضي أشغاله بهدوء وصبر وتعقل، ويقيناً أن نجاحه في تحقيق مهامه يعود إلى ذلك.