زايد..ناقص
بقلم /جمعة بوكليب
حين كنّا ندرس في المرحلة الابتدائية، كان معلمو التربية البدنية يرددون على مسامعنا، أن الرياضة تُوحد والسياسة تُفرّقْ. لكنهم – ولا أدري لماذا؟ – لم يقولوا لنا ماذا تفعل الحرب؟
ورغم صغر أعمارنا، وقلة خبراتنا، وسذاجة تفكيرنا، كانت عقولنا ترفض بشدة ما كان معلمونا حريصون على نقشه فيها. والسبب، هو أننا كنّا نذهب إلى الملعب البلدي ونشاهد المباريات، ونعرف علم اليقين، أن الملعب مقسوم وليس موحداً، إلى عدة منصات، وكل منصة تخص جمهور فريق معين. جمهور الاتحاد في جهة، والأهلي في جهة، والمدينة في جهة وهكذا. وأنه من شبه المستحيل أن يتوحد أنصار أي فريق مع نظرائهم من أنصار الفرق الأخرى، أو ان يقبلوا بمشاركتهم الجلوس في منصتهم. ومن يتجرأ على تجاوز الحدود المرسومة بوضوح يتحمل عاقبه فعله. وكنا نسمع ونعي ما يردده مشجعو كل فريق من هتافات وشتائم ضد الفرق الأخرى. وفي أحيان كثيرة، كنا أثناء المباريات، أو بعدها نشاهد، معارك دامية تنشب في الميدان، أو خارجه.
لكننا، كنّا متسامحين مع معلمي التربية البدنية وحرصهم لاقناعنا بمقولتهم غير الواقعية. وكنّا، رغم صغرنا، نأخذهم على قدر عقولهم، على أعتبار أن ” العيب على زايد العقل”، ولأنهم طيبون وساذجون، ولأننا نحب الرياضة، ونحب مدرسيها وحصصها، وعلى استعداد أن نعصي تعليمات أولياء أمورنا، و” نأكلوا طرايح”، في سبيل أن نتمكن من الذهاب إلى الملعب البلدي ومشاهدة المباريات، والصياح والهتاف حتى تترهل حبالنا الصوتية تعباً من الصراخ تشجيعاً لمن نحب من الفرق. ولم نكن نفعل شيئاً مستهجناً. بل كان أمراً طبيعياً، كشروق الشمس وغروبها. ويتشارك فيه الجميع من مختلف الأعمار والفئات. وحين تنتهي المباراة يفترقون عائدين إلى بيوتهم أو إلى أعمالهم.
حين كبرنا في دورة الزمن، أدركنا أن الرياضة، بالإضافة إلى أنها تفرّق ولا توحد، من الممكن جداً أن تتحوّل، إلى أداة ناجعة ومفيدة بين أيادي الساسة لتحقيق أهدافهم وأغراضهم، انطلاقاً من استغلال شعبية وأنتشار حب الرياضة، وأن الشباب قوة كامنة من الأفضل الاستحواذ على عضلاتهم لاستخدامها مستقبلاً لضرب وتعنيف الخصوم وردعهم. وكذلك الاستفادة من حناجرهم لتهتف في الميادين والشوارع بحياة النظام وقادته. وفي أوقات الازمات من الممكن تحويل الملاعب الرياضية إلى مراكز اعتقالات مفتوحة، وساحات تعذيب.
وحين طالت قاماتنا، واتسع حجم مداركنا قليلاً، وبدأنا التعرف على ما وراء الحدود، زهقنا من المآل الذي آلت إليه أحوال الرياضة، وبدأنا في الاقتراب بحماس من عالم السياسة، وبرغبة المشاركة في تغيير العالم!!. وعرفنا، بمرور الوقت، وبعض التجارب والخبرات، أن السياسة لعبة خطرة، لأنها تسير مع المصالح يداً بيد. وأن الشباب، أمثالنا، الممتلئة عقولهم بالمباديء والأحلام ليسوا، لأهل السياسة، سوى بيادق صغيرة محشوّة بمزيج من تبن وغباء وسذاجة، يتم تحريكهم على رقع شطرنجية، مختلفة الأحجام، وتقديمهم ضحايا مجانية.
وحين اغتربنا، وذُقنا طعم مرارة الآلم، وحلمنا بأن يكون لنا وطن يُحبنا ونَحميه من شرور العاديات والأعداء، وجدنا أنفسنا فرائس بين مخالب حرب. وعرفنا، بعد مرور الوقت، وتفاقم الموت، والخراب والحزن أن الحروبَ لعبة خطيرة، من نوع مختلف، ومن السهل اشعال نيرانها، ومن الصعوبة بمكان التنبؤ بمساراتها أو نتائجها، أو السيطرة عليها. كما أدركنا، من تجربتنا الحالية، أن الحرب أنواع، وأن الحروب بالنيابة، مثل التي تحرقنا بنيرانها في طرابلس، أشدها سؤاً. وعرفنا، كذلك، أن تمزيق الأوطان إلى شظايا، في سبيل تحقيق مطامع سلطوية شخصية، كما يؤكد التاريخ، أحد أكثر أجندة الحروب، وأقذرها.