روعة سنبل
محمد الهادي الجزيري
هي سورية وصيدلانية قاصّة، تكتب القصة القصيرة والرواية والمسرح، لها ثلاث مجموعات قصصية هي : زوجة تنّين أخضر، الديكاميرون، دُو،يَك..وهذه الأخيرة محور تقديمنا اليوم ..، علما أنّ مجموعتها القصصية ” صيّاد الألسنة ” والتي صدرت سنة 2017 وفازت بالمركز الأوّل في جائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها العشرين ..، وقد اخترتُ ” دُو،يَك ” لتكون فاتحة تعرّفي على روعة سنبل …
” أحدُهم يحاولُ أن يُخبرنا شيئا ” قصّة أولى تفتتح بها الساردة هذا المتن السرديّ ..، أوّل شيء يفهمه القارئ منذ البداية ..أنّه بصدد قراءة لامرأة مصابة بمرض نفسي ..، سيدة مضطربة ..ولكنها ملتزمة بزيارة طبيبها وشُرب أدويتها، وتتخيّل أنّ ثمّة شخص يراسلها على أرغفة الخبز ليخبرها بشيء ما ، ولكنّ القارئ يباغت في نهاية القصّة أنّه يتعامل مع روح لامرأة ميّتة، انتحرت ووجسدها مُسجى من زمن تحت التراب ..، أعتقد أنّ الساردة أقنعتني بأنّها روح مضطربة ..لها ما تقول حتّى بعد زوال الجسد ..، كقصّة أولى ناجحة في جرّي إلى قراءة ما يلي من قصص ..، ولكن بعد أن أقتطف لكم فقرة من الخاتمة :
” ..أمّا روحي، فما تزال مضطربة، تتخبّط هنا في الفرن، داخل بيت النار، الآن فقط عرفت كلّ شيء، وتذّكرت كلّ شيء، الآن فقط صرت شجاعة بما يكفي، أريد أن أحكي، أن أصرخ، لكن لا صوت لي.
أخمش عجينكم بأظافري، أخربش على أرغفتكم، أحاول أن أخبركم بكلّ ما أعرفه، أحاول، أحاول..”
ثمّة قصص تفرض عليك الانحناء بعد قراءتها ..، ففيها خليط من الحبّ والاحترام والشِعر والتكثيف ..، فيها الكثير من ترابط الأجيال رغم تغيّر العادات والطقوس، القصة التي أنوّه بها هي ” الرأس على الرأس ” ففيها درس لكلّ آبق ومختال فخور..بأنّ الدنيا فانية ..قد يقع التعلّم بقسوة من الحفيدة في مطبخ الجدّة ..ولكن كلّ ذلك يبقى ذكريات ..ولا بقاء إلا للحظة الموت والحفيدة رأسها على رأس جدّتها المتوفاة ..:
” قبلّت وجهها البارد، ثمّ وضعتُ رأسي على رأسها، الجبهة مستندة إلى الجبهة، والخدّ ملاصق إلى الخدّ، همستُ وأنا أبكي:
ـ الراس ع الراس يا ستّي، شايفة كيف؟ الراااس ع الراس ”
هذا أخذنا الجانب الحميمي في القصة ..، أمّا إذا أردنا اقتناص كلام الحفيدة بعد أن تزوجت وهو موجّه للجدّة وللبلد والعالم ..فنقتطع هذه الفقرة :
” أبتسم حين أفكّر في جدّتي، أعرف أنّها لو كانت معي في مطبخي، لصفعت خدّها، وندبت حظّها، ولصار لديها سبب إضافيٌ لتلعن هذا الزمان، زماننا الذي اختلطت فيه الرؤوس بالأذناب ..”
أمرّ إلى ” خمسة مشاهد من أرشيف الأغنيات ” فهي كما يفضحها عنوانها : أرشيف للعائلة عبر تاريخها القصير ..، وتسافر فيها الساردة مع أغاني كانت ومازالت مشهورة ولو نسبيّا ..، تسافر مع أفراد عائلتها: مع جدّتها وزوجها في سيارة بيجو 504 في رحلة حجّة أولى ، ومع حزن الجدّة على ابنها الذي مات شهيدا، وكيف تذكره لمّا يغنّي عبد الحليم حافظ قارئة الفنجان ويقول ( قد مات شهيدا يا ولدي ) فتبكي ثمّ تبكي ثمّ تموت ..، وتسافر مع أوّل حبّ لإحدى خالاتها وكيف ترسلها إلى دكّان الحي لتشتري لها الموالح ..وتعود إليها بقطعة شوكولاتة وبورقة مطوية يبعثها لها ابن صاحب الدكّان ..، تسافر مع عمّتها الأرملة الشابة حين ترقص كأنّها تطير ثمّ تجهش بالبكاء وتبكي معها النساء الحاضرات ، وتسافر مع نفسها حتّى ( تتزوّج أغنية ) وهي أوّل كائن بشريّ يفعل هذا المستحيل ..فما من سبب أخلاقي يمنعها من الفعل ..، وتنغلق هذه الفسيفساء المعقّدة الجميلة على هذا الكلام الشبيه بالشِعر الصافي :
” أبتسم قبل أن أنام، وتبتسم معي نساء كثيرات، لا أعرفهنّ ربّما، لكنّني أعرف أنّهنّ مثلي، قد تحييهّنّ أغنية، وقد تقتلهُنّ أغنية ”
في قصّة ” دُو،يَك ” التي أهدت المجموعة عنوانها ، والتي سأختم بها هذه الإطلالة على هذا المتن السردي الشيّق والمكثّف ..، في هذه القصة حكاية خمسة رجال يقطعون معا العمر وتكون صحبتهم مثالية ..، ويموت أربعة منهم ويبقى الخامس وهو والد الساردة الذي بلغ الثمانيين من عمره ..، وكان يستقبلهم في بيته كلّ يوم اثنين ليلعبوا ” الشيش بيش “، واليوم صار وحيدا ..إلا من ابنته التي كانت شاهدة على سهراتهم وأرادت أن تلعب معه لعبته المفضلة ..، القصة فيها حسّ إنساني ودفء أخلاقي وحبّ كبير بين الساردة والوالد..، نقرأ معا هذه الجملة …، إلى أن نعود لروعة سنبل من جديد في قراءة أخرى إن شاء الله :
” تأمّلني طويلا ودمعت عيناه،(نلعبُ)؟، تمتَم مستفهما، فأومأت برأسي موافقة، اتسعت ابتسامته ….”