حنان علي كابو
يحل علينا الشهر الفضيل، بطقوسه الجميلة التي لا تنتهي، تفاصيله الصغيرة التي لا غنى عنها، يحمل في طياته ذكريات وحنين وروائح للزمن الجميل الذي نفتقده كلما يطل.
وفي الغربة يكون له وقع مختلف يسرده لنا مبدعين جمعتهم الغربة مغلفة بنسيج ذكريات وصور وموائد وأصناف لها حكايات لموسم بهيء.
بهجته تسبق حضوره بشهرين
ترجع بذاكرتها إلى مرابع الطفولة الأديبة رزان المغربي، المقيمة منذ سنوات في هولندا عن شهر رمضان قائلة: شهر رمضان، صومه روح وريحان، بهجته تسبق حضوره بشهرين، هذا ما علق في ذاكرتي من الطفولة، يحل شهر رجب تبدأ الجدة بالتذكير بفضائل الصوم في غرته، ويليه شهر شعبان تذكرنا بأنه لم يفت الآوان بعد لكسب الآجر ففي منتصفه ايام ثلاث يستحسن صومها. بينما أمي تبدأ بحساب الأيام بالعد التنازلي لقدومه، تحتفي بطريقتها وتراه لمة عائلة والعائلة شجرة رمان قطوفها دانية، نتعلم منها كيف أن كل من بناتها مثل ثمرة الرمان. سيأتي يوم وتنتثر حلاوة مذاقها في بيت يخصها وسوف نتوارث ونورث ما غرس داخلنا من معاني نشأنا عليها، حب الخير ومساعدة الأخرين بكتمان ما نفعله فلا تعلم اليد اليمين ما أعطت اليد الشمال تقولها هكذا ولا أعلم لما تتحول اليسرى لشمال رغم أنه استعارة من الاتجاهات الأربعة! ثم تتوالى التحضيرات المسبقة لمائدة الشهر، ومنذ طفولتي راقبت ما ينبغي فعله عندما يحين وقت الافطار تلك الجلسة حول أطباق تفوح روائح الحساء، وتوضع العصائر الطازجة التي يبدأ بها شق الفطور وطاولة ترتفع فوقها القهوة الساخنة والفناجين ذات الإطار المذهب لما بعد الوجبة. أعجبني هذا الدلال للصائمين الكبار واتخذت قرار بأني في ذلك اليوم صائمة، عدت من المدرسة دون أن المس وجبتي الملفوفة بالمنديل، وأعلنت أني مثلهم صائمة، زغردت أمي وشجعتني جدتي، وأشفق ابي على سني، وفاوضني أن أبدأ الصيام على شكل درجات المئذنةّ وكيف هذا؟ يشرح الآمر ان الأطفال يمكنهم الصيام بالتدرج كل يوم يمضون وقت أطول مما سبقه حتى يصلون إلى صيام يوم كامل. لكن لأمي رأي آخر، وهي تردد صومي في الصغر حتى لا يشق عليك في الكبر. ونحن في فصل الشتاء والنهار قصير والليل طويل.
تحرص رزان المغربي على حضور الطقوس التي تحمل روح الشهر أكثر من شكله؛ وتضيف /تجمع العائلة حول مائدة الإفطار، بداية الفطور بالتمر والماء كما اعتدنا في طفولتنا، ثم لحظات الصمت التي تسبق الدعاء. أحب أيضًا قراءة القرآن مع تحديد هدف لختمه، ليس كسباق وإنما كتأمل وتدبر. ولا أنسى إعداد بعض الأطباق التقليدية التي تربطنا بالذكريات، ولو بلمسة بسيطة تذكرني بلمّة العائلة القديمة..
أحتفي برمضان بالبساطة التي تحمل المعنى، لا أبحث عن مظاهر الاحتفال بقدر ما أبحث عن السكينة التي يجلبها هذا الشهر. أضيء بعض الزوايا بالفوانيس الصغيرة، وأخصص وقتًا يوميًا للتفكر والدعاء. أحتفي به عبر مشاركة لحظات صادقة مع عائلتي، سواء كانوا قريبين أو عبر شاشات الاتصال، لنشعر أننا رغم المسافات لا زلنا نتشارك نفس الروح.
الغربة لا تعني بالضرورة أننا في مكان بعيد، فقد تصادف أناسًا لم يغادروا أماكنهم يومًا، ومع ذلك يسكنهم ذات الشعور. الغربة شعور حارق يتسلل حتى في أقرب الأماكن. عندما قررت الهجرة، كان عليّ القبول بتبعات قراري، لكن هناك دائمًا حنين خفي لا يغادر القلب. أكثر ما ينكشف لي هذا الشعور في شهر رمضان؛ حين نحاول إحصاء غياب صوت الأذان في الطرقات، وافتقاد دفء الاجتماعات العائلية. لكني وجدت عزاءً في أن الروح تحتفظ بجذورها، مهما ابتعد الجسد. ربما لم أتجاوز الغربة بالكامل، لكنني تعلمت كيف أزرع الألفة بين أبنائي—عائلتي الصغيرة التي ستمتد قريبًا في أماكن جديدة.
مشاعر تتجدد
تغمر البهجة الأديبة محبوبة خليفة لحلول الشهر الكريم قائلة: أحب هذا الشهر الكريم واستمتع جداً بأجوائه الفريدة، وتغمرني مشاعر أو لنقل أستعيد مشاعر قديمة تتجدد مع كل رمضان عشته وأعيشه من جديد.
في طفولتي كان يغمر قلبي وروحي احساس الأمان الكامل. كانت جدّاتنا يؤكدن لنا أن كل النفوس الخبيثة تُكَبَّل في رمضان، فتصبح غير قادرة على فعل الشرور، فنطمئن. إذن لا سارق سيجرؤ على دخول بيوتنا ولا عفاريت تقترب منها فننم قريري الأعين آمنين. مازالت أستشعر ذلك حتى في هذا العمر!!
تلك إحدى نِعَم رمضان.
وعلى مستوى شخصي استعيد هويتي الصغيرة وتلبسني الروح الدرناوية فأجهّز ما يلزم مطبخي بنكهات الطعام الدرناوي المعروف.
وللشاهي حضوره فيحضر ماء الزهر أو الزهر نفسه إذا صادف موسمه موسم رمضان، ومعه النعناع بالطبع وحلويات درنة أيضاً لها مكانتها في قلبي وعلى مائدتنا رغم أن للصحة والعمر أحكام علينا طاعتها
كما أن الاجتماع الإنساني حاضر وبقوة في هذا الشهر الأنيس وهذه إحدى فضائله وبركاته.
تآلفت مع الغربة مذ سني شبابي فأنا خرجت من بيت أهلي ومدينتي عند انتهاء المرحلة الثانوية ومازالت أسكن بلاد الناس حتى هذه اللحظة غير أن بيتي ظل ليبيَّا وسيبقى ما حييت. الغربة تجربةٌ حياتية، تعطيك بقدر ما تأخذ منك، ومع ذلك مازالت أعتقد أن غربة الإنسان عن ذاته هي أصعب وأقسى، ونتائجها وخيمة، تآلف مع نفسك وروحك في أي مكان من هذا العالم فتحميك وتحصنك وتدفعك لمزيد من الإنتاج والعطاء ورفد الحياة من حولك بشيء منك.
شعاع يربطني ببهجة الزمن الجميل
تسرح الأديبة الدكتورة فاطمة الحاجي المقيمة في تركيا /بذكرياتها وحنينها لتكتب لي /……..
يتميز رمضان بكونه موسمي الروحي الذي انتظره ليفجر منبع السكينة والتأمل في الذات، هو ملاقاة بين نقيضين، جوع الجسد وبذخ القوة الروحية، أجلس بلهفة انتظر اعلان اطلالة هلاله علينا فتقفز مشاعري تجهز لموسم الصيام طقوسا ورثتها، وأخرى اخترتها من تجاربي أحب الاستيقاظ مبكرة كعادتي لا اغيرها في هذا الشهر، أحب الطقوس عندي هي اجتماع العائلة قبل أن نفترق وتأخذني تيارات الغربة التي غيرت مفهوم الفرح بالشهر الى محطة لخزائن الذكريات. مازالت أحب ترتيب المائدة رغم فراغ كراسيها، استمع الى صوت مدفع الافطار حسب إذاعتنا في طرابلس وهذا طقس احرص عليه لأنه يلتصق بذاكرتي ولا ينقطع. انه شعاع يربطني ببهجة الزمن الجميل.
تغير معنى الاحتفال بالمواسم عندي في الغربة فهي تجلب لي معها الفراغ، وتلاشي اشعاع الزمن فأهرب الى سماع الموسيقى الصوفية، والعزف على العود، قراءة متنوعة لشعراء وتراتيل آلهية لكتاب من جنسيات مختلفة. أنام مبكرة وأحلم بشمس يوم آخر من شهر رمضان المبارك.
تواصل فاطمة الحاجي، ضجيج الصمت في الغربة يؤرقني خاصة في المواسم الدينية وأهمها شهر رمضان الكريم، تأتي الذكرى محملة بصور افراد العائلة والأحباب والجيران، الذين تقاسمت معهم موائد مزدحمة بالفرح وتردد صدى الضحكات البريئة والصاخبة، صوت الآذان يرتفع بفرحة الجلوس الى موائد عامرة، مدفع الافطار، البرامج الاذاعية الخاصة برمضان تحيط بي وترسم دوائر الغياب حولي. تتسارع نبضات الخافق المعنى باحثة في أزقة الغربة عن أثر تلك الأيام الهاربة. كنورس وحيد أقف على ضفاف بحر لا يعرفني موجه البارد، صقيعه يصفع ملامحي طيوره تحملق في باستغراب، واتوهم ان عمرا آخر ينتظرني وتتفتح براعم القلب وتزهر، الماضي ليس مساحة محدودة والغربة شمسها باردة وسماؤها لا لون لها أبحث عن موقف للعبور، الى المدينة الفاتنة مدينتي طرابلس التي ليست ككل المدن، اقطع انتظار عودتي بالتغني بعرجون الفل، يتمدد خيط الأمل ليهديني سنابل حب في جسر الذكرى.
لرمضان في مدن طفولتنا أجواءً مختلفة
يستعيد أديبنا محمد قصيبات طعم “الشربة الليبية ” والبطاطا المبطنة التي تبدع والدته في اعداده بجانب الأصناف الاخرى التي تتزين طاولة رمضان حيث تتحلق الاسرة حولها، ليصف ذاك الشعور قائلا: إني أحن إلى شربة أمي.
يكتبُ محمود درويش في سجنِهِ قصيدةً يقول فيها)1 ”
أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي
” ويكتب الفرنسي مارسيل بروست في
بداية “البحث عن الزمن الضائع”
عن قطعةِ “المادلين” التي كانت تعطيه عمته عندما يزورها في طفولته وكيف أن قطعة المادلين تلك كانت تشعل ذاكرته وتمنحه بعضَ السعادة في وحشته ترى هل ما يقول درويش وبروست مجرد صور أدبيةٍ أم أنه كلام يعتمد على أسسٍ علمية؟ الإجابة نعم ، بل والإجابة تذهب إلى أبعد من ذلك ؛ فالحنين كما وجد العلماءُ لا يبعث الدفء في الروح وحسب بل في الجسد أيضا ، لا داعي للدخول في التفاصيل ؛ نكتفي بالقول أنّ العلمَ يصنف أنواعا عدة من الذاكرة منها المتعلق بحاسة التذوق وحاسة السمع وغيرها من الحواس ، فعندما نتذوق الطعام ترسل المستقبلات التي على اللسان إشارات إلى “فرس البحر” الذي بالدماغ (وهو المسؤول عن الذاكرة السريعة) والذي يرسل بدوره المعلومات بعد تصنيفها إلى جزء آخر من الدماغ به مركز للحنين في منطقة لها علاقة باللذة وللطفولة دور مهم في تصنيف تلك المعلومات حيث أنه ( فيما يتعلق برمضان) يتم تخزين ما تعلمت حواسنا قرب أمهاتنا في سنواتنا الأولى مع الشهر الكريم ، فالتفكير في شربة رمضان مثلا أو في صوت أو صورة معينة سوف يولد عندنا شعورا بالحنين وهو شعور غريب لا علاقة له بالحزن على سنوات الماضي الضائعة بل يولّد شعورًا بالراحة والهدوء حيث كما قلنا يتوهج خيطُ الذكريات في مركز اللذة في الدماغ لقد ارتبط شهر رمضان عندي ب”شربة” أميّ وأيضا ب”البطاطا المبطنة” التي كانت تتقن إعدادها وكذلك بصوتِ أبي قارئ القرآن في صلاة التراويح بمسجد “عبد الصمد” بمنطقة الصابري.
في الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن السفرُ إلى بنغازي أمرًا هينا لكنّ شيئا كان يجذبني إلى هناك في مواسم رمضان دون غيرها من الأوقات و لم يكن السفر من أجل الراحة أو استعادة الذكريات واللقاء بالأحباب وحسب بل كان أكثر من ذلك إذ أنّ لرمضان في مدن طفولتنا أجواءً مختلفة، ففي كل زيارة كانت لي طقوسٌ منها التجول في شوارع المدينةِ ساعات العشية من الفندق البلدي حتى ميدان سوق الحوت وكنتُ كلما مررت بشارع “بوغولة” اتوقف عند أحد أقاربي التجار بذلك الشارع التجاري ؛ كان قريبي رحمه الله يقول لي كلما زرته ” توا قاطع آلاف الأميال من أجل الشربة!!” نعم كان قريبي على حق إذ أن الشربة الليبية كانت واحدة من أسباب عودتي إلى الوطن في شهر رمضان بالرغم من سنوات السفر الصعبة تلك يغيب الوالدان ويقلّ السفر فيعيش المرءُ أشهر رمضان في بلدان غربية. تحاول عبثا أن تجد تلك الأجواء التي عرفتها في الطفولة وتتناول أنواع أخرى من الشربة وتكتشف أكلات مختلفة مثل “البغرير الجزائري” و”الباستيلا المغربية” و”المقروض التونسي” فتشعر ببعض الراحة والمواساة لكن برغمها يظل فيك صوتٌ يوقظك بين الحين والحين يقول: «إني أحنّ إلى شربة أمي.

روح رمضان مفقودة في الغربة
اما القاصة الكاتبة هدى القرقني المقيمة في الكويت تشاركنا تجربتها مع الغربة قائلة: أول مرة أصوم رمضان بعيداً عن أهلي عندما سافرت مع عائلتي الصغيرة إلى ألمانيا بسبب دراسة زوجي ، كانت تجربة صعبة جداً خاصةً في أول عام لنا هناك ، وقتها كان رمضان يأتي في الشتاء والظلام يحل باكراً وفي الصباح وعند الساعة السابعة يبدأ الدوام المعتاد ،أذهب بأولادي إلى المدرسة ومنها للتسوق والعودة إلى البيت لإعداد وجبة الإفطار ، لا اذكر اننا كنا نقوم للسحور فاليوم كان قصير وكنا ننام باكراً كأي يوم عادي وممل ،لم اشعر بالشهر الفضيل ولا بطقوسه الروحانية فلا صوت للأذان ولا للتراويح ولا أي تفاصيل ولا ملامح للشهر الكريم ،حالياً ورغم أني مقيمة في بلد عربي والمساجد في كل مكان إلا أن الاختلاف موجود في عادات الاكل ونكهة الطعام وطقوس الإفطار ، نحاول أن نتبادل الأطباق المختلفة مع الجيران فكل ليلة تتزين سفرتي بالشربة الليبية المميزة وقد اصبح لها عشاق من الجيران ويطلبونها مني حتى في غير شهر رمضان وكذلك (الابراك) الذي يختلف بطعمه وطريقته ، ولا أنس القديد الذي عادة ما يعبر المطارات بالخفية يرسله لنا أهلنا هناك ليصل إلينا قبل شهر رمضان ليكون الحساء الدرناوي على سفرتنا الرمضانية ،كنت حريصة جداً أن اجلب معي كل الأشياء التي احتاجها في رمضان عند زيارتي لليبيا وخاصة (الحرارات )هذه الخلطة الفريدة التي تعطي نكهة خاصة لطعامنا الليبي المميز ، والحبق والشيبة والمستكة والقهوة وأشياء كثيرة ربما تكون متوفرة هنا ولكن لدي شعور انها لا تشبه تلك التي نشتريها في الشهر الفضيل من محلات العطارة عندنا وسط الزحام الشديد الذي نشعر معه ببهجة قدومه والاستعداد لاستقباله.
رمضان هنا يشعرك بالغربة مرات مضاعفة، حاولت أن أقيم طقوسي التي اعتدت عليها ولكن روح رمضان التي أعرفها مفقودة، لا أجدها إلا في بلادي الغالية، رمضان بدون لمة العائلة والجيران والأصدقاء، أبيض وأسود بدون ألوان.
حالة من السرور الداخلي تستمر حتى العيد
أما الشاعر المترجم مأمون الزائدي، فيجزم بإن لا خصوصية مميزة في شهر رمضان خارج الوطن ويضيف قائلا: الحياة عادية تماما، ربما يعتمد هذا على موقع الشخص. ففي المدينة التي أعيش فيها منذ سنتين لا توجد أي مظاهر احتفالية كما يوجد في بلداننا، تنتهز بعض الشركات الفرصة لتقديم بعض التنزيلات او تحرص على توفير بعض السلع كالتمر ولكنه يبقى ابعد ما يكون عما نعرفه في اوطاننا. يوجد مسجد كبير في المدينة يجتمع فيه المصلون كما يوجد مسجد أصغر حجما في مكان اخر ولكن بمجرد خروجك من المسجد تعود الى مظاهر الحياة العادية.
لا أحرص على طقوس خاصة بهذا الشهر الفضيل بما أنني وزوجتي نعيش بعيدا عن العائلة الكبيرة. فكبار السن هم من يعطون هذه الطقوس طعمها واهميتها. لكنه شهر يتميز بجوه الخاص على صعيد المائدة وعلى الصعيد النفسي والروحي. كلانا من محبي رمضان ونسعد كثيرا بقدومه. فتجد أن هناك حالة دائمة من السرور الداخلي تستمر حتى العيد.
ولا معنى لرمضان دون حياة اجتماعية وتواصل مع الأقارب والأصدقاء. لكن خارج الوطن تتقلص فرصة الحياة الاجتماعية حتى تكاد تنعدم لأسباب كثيرة كما أن الامر يحتاج لمدة زمنية أطول حتى يمكن النجاح في انشاء علاقات تسمح بتقاسم مباهج رمضان واجوائه.