رغبات صغيرة
محمد الهادي الجزيري
أعرفها منذ كانت حلما ..، وقد مرّ بي وأنا كاتب عام اتحاد الكتّاب التونسيين سنة 2014 ، وقد تصدّيت للمهمة وقمت بتقديمها رفقة أربعة ينابيع شعرية ..، واستمعنا إلى شذرات من مدوّنات عربيات مازلن في البدايات ..، ثمّ ولا بدّ من ثمّ …كما قال الشاعر الراحل أولاد أحمد ليستمرّ الكلام ، ثمّ تابعتها في الفيسبوك إلى أن انتقلت من البحرين إلى امستردام سنة 2019 ، وهي الآن تعدّ وتفكّر في أطروحة دكتوراه ..، على كلّ هذه رنوة العمصي صاحبة رغبات صغيرة ..، ضيفتنا المتوهجة بشمس الخليج ..رغم الصقيع التي هي فيه…
ما أقسى الغربة على الإنسان العادي ..وما أبشعها حين يكون الفرد المتعرض لها : الشاعر، حين تترك كلّ شيء وترحل إلى الشمال بارد القلب ..، ستفهم ما حبّرته صبية بحرينية على صفحات دفاترها ..، إنّه الضياع والتلاشي حين تصير الحياة بيضاء وهي تجرّ القدمين الشبيهين بجذعين مقطوعين من مكان بعيد..، وترى أنّ الحياد حقيقة وقانونا في بلاد لا علاقة لها بها ..، هذا ما نقلته رنوة على صفحة جديدة وهي ترقب الثلج يحتلّ الطرقات :
” إنّها تثلج صمتا…
الشوارع واسعة جدّا،
الملامح كلّها شقراء..محايدة
الشجر يورق ثلجا
الطرقات بيضاء .. بيضاء
كصفحات جديدة…
وأنا أرتجل الكتابة
بحذاء ثقيل وقدمين غير واثقتين
أضيع…”
قصيدة ثانية شدّتني ( بالرغم صعوبة مسكي في الشِعر )، بعنوان ” عيد ميلاد ” وهي بسيطة ومتاحة لأي كان ..لكنّها شِعر صافِ لا شكّ فيه ..، وسأبيّن ذلك حتّى إن استهلك ذلك الوقت والجهد والمساحة المخصصة للمقال ..، نبدأ بمقطع منها :
” صار عمري ثلاثين
وأنا خارج الزمن بإرادتي
أبطئ حتى تصير تدفعني أكتاف المستعجلين
أنسى المواعيد وأحفل بنسيانها
أتأخر وأزهو بتأخيري
أضع سوء علاقتي بالوقت شرطا لحسن علاقتي بأحدهم
عليه أن يقبل به ..”
هذا شِعر خالص لا غراب عليه ولا غبار كذلك ..، إنّنا في حضرة شاعرة تقول نفسها كما هي دون رتوش أو مكياج أو حذلقة لفظية ، وهذا ما قصدت به وصف القصيدة بالشعرية ومن قلائل الحالات أن تربكني قصيدة نثرية ..فأحيانا يكون الصدق معيار لشعرنة النصّ وهذا ما حدث للشاعرة ولي في هذا المتن النثري ..، لو كان بإمكاني ..لنقلت القصيدة كاملة ولكن من الظلم أن نغبن النصوص الأخرى في مجموعة ” رغبات صغيرة “، ومع ذلك أقتطف هذه الفقرة :
” لا أضع ماكياج
ولا أزال كفتاة صغيرة
لا أجد توازني بالكعب العالي
أؤثر الحذاء الرياضي، ذا الرباطات
أنحني لأربطه، كلاعب يستهلك مزيدا من الوقت ..”
من يقرأ هذا النزيف الدافق ..، يصبح أكثر حزنا ممّا كان ، ويمسي واثقا تمام الوثوق أنّ الفجر قادم ..، أطلقوا سراح هذا الجيل الهادر بالأغاني ..القادم على عجل ليصنع الحياة التي تشتهون ولكن ترفضونها بدعوى الدفاع عن النفس ..، في حين أنّه لم يبق من هذه النفس إلا صهيل هذا الجيل ..، أحبّوا الناس والعالم وأصيخوا السمع للأصوات الحرّة :
” لديّ عشر أصابع
وموعدنا بعد سبعة أيّام …
أقطع كلّ يوم إصبع
لا أخطئ في العدّ
أبقي ثلاثا…
أزرّر بهم القميص
وأزيح بهم الشَعر عن عينيك
ولي فيهم مآرب أخرى ”
قصيدة ” هكذا ” في تركيبتها جدّ بسيطة وفي دلالاتها جدّ مؤثرة ..، تركتها لأختم بها هذه المقالة العاشقة لمجموعة ” رغبات صغيرة ” لرنوة العمصي..، يا جماعة قصيدة العمودية أو التفعيلة أو النثرية ..، هذا درس عفويّ في الشعر ..فأرجو أن تحفظوه
” هكذا…
أصبح سريري على بعد قارّة
صدر أمّي على بعد 7 ساعات من الطيران
حزن أبي على بعد ألف ألف دمع
أصدقائي على بعد ملايين الغرباء
وكتبي على بعد خمس لغات وأكثر…”