منصة الصباح

رسائل من وراء القضبان.. عن الحرية والحُب والشِّعر

الصباح/ خلود الفلاح

تشير المترجمة نهلة الشهال في كتاب “مراسلات: روزا لوكسمبورغ” أن نشر هذه المراسلات والتي هي عبارة عن رسائل تنبض بالحب والحنين من السجينة روزا لوكسمبورغ (5 مارس 1871 ـ 15 يناير 1919) إلى الحبيب هانز ديفا نباخ الذي كان مرتبطاً بروزا بصداقة عميقة وغرامية وكان اصدقاؤهما المشتركين يأملون في زواجهم بعد الحرب..

هذه الرسائل كانت ترسل له من سجون مختلفة في المانيا. إذ المعروف عن روزا أنها لا تخرج من السجن إلا لتدخله من جديد، زارت سجون بولونيا وروسيا وألمانيا وكانت أقساماً مهمة من مساهمتها النظرية والعملية تنتج هناك وتسرب إلى الخارج.
.
وتعرف روزا لوكسمبورغ – من أصول بولندية ـ بأنها أكثر النساء الاشتراكيات شهرة في البلاد الناطقة باللغة الألمانية بسبب نقدها اللاذع للرأسمالية، وهي صاحبة الرؤية المثالية للفكر والممارسة الاشتراكية الديمقراطية. وسماها لينين “صقر الماركسية المحلق”. وقفت ضد الحرب العالمية الأولى التي نشبت عام 1914 وانتهت عام 1918..

طبعة جديدة

هذا الكتاب “مراسلات: روزا لوكسمبورغ” الذي صدر في طبعته الأولى عام 1977، أعيدت طباعته حديثا عن دار شهريار 2020، وحول الطبعة الجديدة، قال صاحب دار شهريار الناشر العراقي صفاء دياب: هناك أسباب عدة لإعادة طباعة مراسلات روزا، الأول أن الكتاب مهم وهو يتناول حياة روزا الخاصة، ولأنه مطبوع منذ 45 عام فلم يعد متوفراً في متناول اليد..

والثاني، أن هناك اهتماماً غير مسبوق عراقياً وعربياً بالكتب الماركسية والشيوعية، من قبل شباب مهتم بالقراءة وهو ما دفعنا لإعادة طباعته. مع ملاحظة أن هؤلاء الشباب في الغالب ليسوا شيوعيين..

في هذه المراسلات تظهر روزا لوكسمبورغ كإنسانة تعشق وتتألم، وتعيش كأية امرأة في هذا العالم
بعيداً عن شخصيتها القيادية..

من هي روزا؟

امرأة، نحيلة، قصيرة، مريضة على الدوام، امرأة عميقة الثقافة، متنوعة المعرفة، تحب الزهور والعصافير والشمس، وتحب الموسيقى والأدب، يسكنها المرح والحزن معاً، تجيد فهم معاناة الآخرين..

وهي تحنو على النساء، على آلامهن، على معاناتهن، على ضعفهن، على الرغم من أنها رفضت على الدوام أن تكون مساهمتها النضالية نسوية، ليس احتقاراً لميدان النضال هذا، بل لأنها كانت تعتبر أن أفضل خدمة يمكن أن تقدمها للنضال النسائي، هي تثبيت موقعها كقائدة للرجال والنساء معاً..

وتقول المترجمة نهلة الشهال، أن هدفها من ترجمة هذه المراسلات ليس لغرض وثائقي فحسب، أو لإضاءة جوانب من شخصية روزا، وإنما لتقول، تكون أنثى رقيقة جميلة، من كانت إنساناً صلباً. في قلب هذا التناقض تكمن كل روعة الإنسان. ولتكشف الجانب غير المضاء من شخصية ونفسية منظّرة ماركسية وفيلسوفة واقتصادية واشتراكية ثورية. أشارت عدة مصادر إلى انهيارها العصبي والمعنوي، وإلى محاولتها الانتحار بسبب انهيار آمال ثورة شيوعية في ألمانيا..

نفاذ النسخ

قالت المترجمة نهلة الشهال، أنها سعيدة بهذه الطباعة الجديدة من الكتاب الذي ترجمته عام 1977، في بيروت وصدر عن دار ابن خلدون، وأضافت: ” للأسف ضاع ما تبقى من نسخ الكتاب عندي. وكان قد اتصل بي عن طريق الفيس بوك الناشر صفاء دياب وطلب موافقتي على إعادة طباعة الكتاب الذي عثر عليه ضمن كتب مكتبة قديمة في البصرة قام بشرائها. وافقت طبعا. وطلبت قراءة النص قبل اعادة طباعته. صححت بعض الاخطاء الطباعية. وتركت المقدمة التي كنت قد وضعتها له وأنا في ال (25) من عمري كما هي. ليس كأثر، بل لأني بصدق وجدتها ممتازة ولم يكن عندي ما أضيفه عليها أو ما أريد تعديله. فرحت لأنه بعد أكثر من (40) عام، وتجارب بعضها مرير، وخيبات بمقدار الحماسات (بل أكثر) وتغيير في الكثير من الأشياء. ما زلتُ موافقة على مرتكزات قناعاتي والقيم التي اتمسك بها”..

انتظرك بفارغ الصبر

عندما اقتنيت الكتاب لم أكن اعرف من هي روزا لوكسمبورغ، فقط شدني الغلاف. وبعد القراءة أحببت عالم هذه المرأة القوية، والمدافعة الشراسة عن أفكارها، المرأة التي تثمن الحب وتصفه بأنه يمنحنا القدرة على رؤية العالم، وكأنه من قصص الجنيات، ويخرج من النفس البشرية أجمل ما فيها..

ففي رسالتها الموقعة يوم 14 ـ 5 ـ 1917، كتبت للحبيب هانز تقول “كنت هذا المساء، أشعر أني أكثر بؤساً مما يمكن وصفه، فتصفحت كي أتسلى الديوان الشرقي الغربي ـ وهو مجموعة من القصائد كتبها غوته وهو في سن السبعين ـ أحب هذا الكتاب كثيراً، ليس فقط بسبب الحيوية اللاهبة والدائمة التي تشع منه، ولكن أيضا بسبب زليخة ـ ماريان التي تجسد وحدها، في نظري، صورة المرأة المحببة إلى غوته، وأعد أشعارها تعادل حقا أشعار غوته من حيث الحرارة والبساطة”..

كل ما نعرفه عن روزا لوكسمبورغ القائدة الحزبية والنقابية، لكن الجانب الإنساني هو الغائب. وأنا أبحث عنها في محرك البحث “قوقل” كل الروابط تقودني إلى روزا التي تبنت الاشتراكية وانتسبت للحزب الماركسي البروليتاري منذ حداثها، أما المرأة الإنسانة التي تحب وتعشق وتحزن وتفرح للقاء “هانز” كان بين دفتي هذه الرسائل..

كثيرا ما اختتمت روزا لوكسمبورغ هذه الرسائل بجملة ” انتظرك بفارغ الصبر” ففي شهر فبراير من العام1917، كتبت له إلا يفاجئها بزيارته، فقط عليه أن يبلغها قبل حضوره، وأن يأتي باللباس العسكري ـ التقى هانز ديفا نباخ (1884 ـ 1917) مع روزا أول مرة خلال إقامته في برلين، ثم جُند في أثناء الحرب في سلاح المدفعية. قتل بقذيفة ـ كما طلبت أن يعطيها في نهاية الزيارة قبلة الوداع المعتادة”..

هذه المراسلات لا تحمل شروحات وتفاصيل لحياة روزا في السجن، وإنما هي بمثابة يوميات قصيرة وسريعة وفيها الكثير من الحنين لهانز، مثلا تخبره عن الكتب التي تعمل على إنجازها، ومطالبته أن يكتب رسائله على الورق وليس على ايصالات المكتبات التي يختار منها الكتب ويرسلها إلى السجن..

في صباح يوم 29 ـ 6 ـ1917، كتبت له “كل مساء، حين أكون جالسة أمام النافذة المشرّطة ممددة القدمين على كرسي آخر، أتنفس هواءً نقياً وأحلم، يصلني من مكان ما من الجوار، ضجيج متواصل، لسجاد يطرق بحماس، أو لشيء من هذا القبيل. أجهل تماما صاحب هذا العمل ومكانه، ولكن التكرار المنتظم لهذه الأصوات، يشعرني وكأني على علاقة حميمة بهؤلاء الناس”..

هذه الأصوات التي تتناهى لها من بعيد وهي داخل الزنزانة تشعرها بالراحة، ففي إحدى السجون كانت تستمع إلى صوت بطتان تعيشان في مستنقع قريب، توقظانها يوميا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل. أخبرته عن الانطباع الناجم عن أصوات نجهل مصدرها، وفي رسائل أخرى اخبرته عن حجم زنزانتها الذي لا يتعدى ال 11 مترا مكعبا، الخالية من الإنارة وما كانت تفعله في تلك اللحظات سوى ترديد بعض الأشعار.
كانت تخبره في بداية كل رسالة أنها مرت بلحظات تعيسة، لكنها أحسن الآن طالما تثرثر له وتستعيد معه ذكريات جميلة على الرغم من الحزن العميق الذي يحيط بها..

اغتيلت روزا لوكسمبورغ في الخامس عشر من يناير من قبل عسكريين كان من المفترض أن ينقلوها إلى السجن لكنهم قتلوها. ولم يعثر على جثة لوكسمبورغ إلا بعد أربعة أشهر..

شاهد أيضاً

"القصيدة السوداء".. من مصراتة والخمس إلى شاشات كوالالمبور

“القصيدة السوداء”.. من مصراتة والخمس إلى شاشات كوالالمبور

يواصل الفيلم الليبي القصير “القصيدة السوداء”، رحلته في المهرجانات الدولية، بعد أن تم اختياره للمشاركة …