كنا أطفالًا نذهب لجامع مولاي محمد بطرابلس نواصل خُطى أسلافنا الذين نهلوا العلم زمن الكتاتيب، ونستمع لدروس من الشيخين الجليلين الأمين قنيوة وبشير مالك وكان يزورنا بين الحين والآخر شيوخ أفاضل كمحمد كريدان ومصطفى قشقش وأبوبكر ساسي رحمهم الله جميعًا، وفي كل مناسبة يحرص شيوخنا على تعليمنا من فيض علمهم، وكنا ننتظر الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف بشوق، فنسمع سيرة رسولنا العطرة من مشايخنا، ويطرحون الأسئلة، ويثنون على صاحب الإجابة الصحيحة، ونحضر حلقات الذكر وتلاوة القرآن الكريم وكل الختمات، وننشد القصائد في مدح النبي المصطفى، ونتعارك مع أقراننا على (الخُمرة) وحلوى (الشكار)، ونخبئ بعض الغنيمة الصغيرة لأمهاتنا. وفي البيت بعد العشاء نروي لأمنا ما تعلمناه وتتولى مع أبي الرد على أسئلتنا التي لا تنتهي.
كنا كما كل الليبيين البسطاء نحب رسولنا ونعلي قدره ونمدحه ونصلي عليه، وننتظر يوم 12 ربيع الأول باعتباره يوم مولده لنعلن الحب الممزوج بالفرح وعراقة العادات، كان أبي يصحب إخوتي لإحضار القناديل والشموع والخميسات، وتجهز أمي الحناء لتخضب بها الأيدي والأرجل الصغيرة ومازلت أذكر كلماتها لنا (اشحطي ايدك – وسعي صوابعك – راك تنوشي حاجة لين نلف القماش….الخ) وقد يرافق ذلك قرصة صغيرة على كف اليد أو ضربة للتنبيه، وحين ننهض صباحًا نتشارك الفرح بالحناء (تراه حنتي أحلى – لا لا أنا صابغة أكثر…الخ) ونمضي الوقت في استعراض خضابنا وتأمل جماله، وكان أبي يجلب لوازم العصيدة من دقيق وسمن وزبدة وعسل ورُب، وتعكف أمي في بعض السنوات على تجهيز القناديل والخميسات بنفسها ونفرح إن سمحت بمساعدتها، و ليلة المولد نلعب مع أطفال الجيران ونقابل ضجيج المفرقعات التي تتنوع عامًا بعد عام بالضحك والصياح، نشعل شموع الخميسات ونغني مع الدربوكة والطبل في جوقات عشوائية (طلع البدر علينا) و(بشراك يا آمنة.. سبحان من أعطاك)، وفي صباح المولد نصحو باكرًا لتناول العصيدة الشهية ساخنة.
كبرنا وظلت الذكريات، كانت مناسباتنا بسيطة معطرة بالبهجة والمعلومة القيّمة، تتلمذنا على مشايخ أفاضل لمعت أسماؤهم في خدمة كتاب الله على مستوى عالمي، لم يكن مقبولا خلط الدين بالرأي الشخصي ولا التشويش على الناس بما لا ينفع ولا تلوين الدنيا بالسواد، ولا تجفيف الحياة من الفرح واللمة للعائلة والجيران.. ويربح من صلى عليه.