محمد الهادي الجزيري
أوّل ما قادني إلى الشعر في بداياتي الأولى ..سماعي بأنّ المسمّى المولدي فرّوج شاعر وطبيب أيضا ..أذكر أنّني كنت أتسلّل إلى المستشفى العسكري حيث كان يعمل ..لأراقب هذا الكائن الغريب ..، ثمّ عرفته وخبرته وصار صديقي العزيز…
قبل الولوج إلى عالم المجموعة الشعرية يجدر بنا أن نذكر أنّ المولدي فرّوج قامة شعرية لا غبار عليها ولا غراب فوقها ..بل أجزم أنّه عدوّ للغبار وللغربان قبل أن يشتدّ عودي في الشعر..فهو رجل مكافح ومناضل لجميع القوى المهيمنة على الإنسان ..ودليلي في يدي فكتابه ” ذاكرة النّار ” دفعة أخرى في حسابه المشرق والمدافع عن الحريّة وانعتاق الشعوب كما أنّه كان وما يزال فاعلا وناشطا في اتحاد الكتاب التونسيين ..، على كلّ لنبدأ قراءة هذا المتن الشعري المطبوع طباعة رائقة وجميلة…
استعان بلغة نثرية ليربط بين المقاطع الشعرية..وقد أحسن الاختيار فمثل هذا العمل الملحمي ( قصيدة في كتاب ) يحتاج التفسير والتوضيح من حين إلى آخر ..ثمّ هو اختيار الشاعر ولا أحد يحاكمه إلا على المضمون ..ومن يعرف المولدي يكون واثقا من فحوى كتابه / رسالته ..، فنحن أمام كهل شاب رأسه في جنازات هذه الأمّة ..ولا يكتب إلا بدمه وبحرقته المكتوي بها دون غيره ..، يفتتح الكتاب بوصف لاذع لأحوال خير أمّة أخرجت للناس ..لم تتعب منذ ولادتها الأحلى من الحروب والتقاتل والتناحر ..يقول الشاعر:
” حفنة من غبار الصحارى
تجمّعها هدنة
ثمّ تنثرها الريحُ
في كلّ ناحية فتنة
وصدى
هي ذي أمّتي
فقأت بيضها ورمت بالفراخِ
لريشِ الحرام ”
استعمل الشاعر أكثر من تفعيلة جدّد بها نفَسَه الشعري ..فالقارئ يملّ والموهبة تكلّ إن ظلّ المتن الشعري على وتيرة واحدة ..، خاصة وإنّنا نبهنا لكون العمل ملحمي منذ البداية ..على كلّ تفطّن لذلك المولدي وغنّ على كلّ ميزان ..رغم أنّ غناءه سلس وشجيّ إلا أنّه مربوط بالوطن وبعذابات الوطن ..فجاء حزينا ومبكيا في أكثر من مرّة :
” كن ما تشاء
لا لستَ آدم ..قد مضى من بعد أن
ترك البلاد لحالها
أرضا بلا ملك
نجما بلا فلك
لم نهدم الأبراج
قد بنيت
على أسس الخراب ”
نصف في تونس الشاعر الذي ينسى المتلقّي ويشطح في الورقة أو فوق الركح ..نصفه بأنّه مبدع ” تسلطن ” وأعتقد أنّ شاعرنا فعل ما تستوجبه اللحظة الشعرية في خاتمة الكتاب فقال ما يجب قوله وقفل هذه الملحمة بقطع الطريق على الماء والنار ..وأكّد أنّه من أمّة تائهة في صحراء الفكر..مهووسة بتعذيب نفسها منذ كانت :
” لا وقت للماء الذي
قد خان نبعه
كي يعود إلى السماء
لا وقت للنّار التي ذابت رمادا
كي تعود إلى الحطبْ
اليوم تأخذنا الحياة بحلْوها
ومرارة الجوع الذي قد ضيّق الصحراء
في وجه العربْ ”
وختاما لهذه الإطلالة على كتاب ذاكرة النار للمولدي فرّوج ..نعود إلى البداية حيث الشاعر يبرّر كتابته عن النار بلغة نثرية عالية…:
” للعاصفة ذاكرة تحفظ النار وتعلّمها الاشتعال
تُوقد النار فتأكل أحطابها لتضمن حياتها، وإذا أصابها الموت تدور على أحشائها لتجعل منها رمادا تذروه الرياح وقودا للعاصفة القادمة “