باختصار
د. علي عاشور
لقد كبرت في زليتن، في تلك الأرياف التي كانت تهتز فرحاً مع أولى قطرات المطر، وما زلت كلما لامست السماء الأرض أتذكر تلك الأيام التي لم يكن فيها موسم جني الزيتون عملاً زراعياً فقط، بل كان احتفالاً عائلياً تشعله القرابة، وتباركه اللمة رغم التعب الذي كان حاضراً.
كل عائلة كانت تجتمع داخل سهولها وسوانيها وجناناتها الخاصة، الإخوة وأبناء العمومة، يجتمعون معا، يحمل كل واحد منهم جزءاً من واجبه وقسطاً من فرحته.
أتذكر الصباحات الباكرة، حين يخرج الرجال بالأكياس والفرش، والنساء يحضرن ما سيؤكل من خبز فطائر ولوازم وجبة المكرونة. كنا نحن الصغار نركض بين الأشجار، نلتقط الحبات المتساقطة، ونشعر بفخر مبكر وكأننا نشارك في عمل يفوق أعمارنا.
كانت الأمطار تضيف للمشهد سحراً خاصاً… رائحة الزيتون المبلل تمتزج بالماء والتراب، وتعلو ضحكات الرجال رغم البلل والبرد، فتشعل النار في مكان ليس ببعيد، يوضع في جانبها إبريق الشاي الأسود فوق الجمر، يغلي ببطء ويصب في أكواب صغيرة لتدفئة الأيادي قبل الأرواح.
دائماً أقول إنه لا غرابة في أن يقول الله سبحانه وتعالى في شجرة الزيتون: (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ)، فكم هي كريمة هذه الشجرة التي تربط الإنسان بأرضه وتغذي روحه قبل جسده.
كان العمل جماعياً بمعناه النقي، كل يد تعمل لأجل كل الأسرة، الرجل يقطف، الآخر يفرز، النساء يجمعن ما تبقى، والصغار يجرون الأغصان بعد قطعها. لم يكن أحد يسأل: كم سأربح؟ بل كانوا يسألون: ماذا سنعمل بعد أن ننتهي؟
أما اليوم، وبعدما أن مرت عقود عن تلك المشاهد، عدت لي تلك السهول… فوجدت المشهد مختلفاً، حد الألم. لا أبناء العائلات كما كانوا، لا ضحكات الأطفال، لا نار الشاي… بل العمالة الإفريقية التي تشبه الطيور المهاجرة، تنتشر بين الأشجار بجهد واضح، تنام في الحقول وتجني الزيتون مقابل أجور تجاوزت خمسة عشر دينارا للكيلة الواحدة. لا عيب في عملهم، فهم يكدون بحثاً عن رزق، لكن الغصة تأتي من غياب شباب ليبيا، من اختفاء أبناء السهول أنفسهم، من فقداننا لذلك التلاحم الذي كان يرفع الأرض والإنسان معاً.
انها ليست مجرد مشكلة عمل، بل أزمة ذاكرة وعلاقة الإنسان مع الأرض. لقد خسرنا عادة قبل أن نخسر مهارة، وخسرنا لمة قبل أن نخسر مالاً وإنتاجاً. فالزيتون لم يعد يلتقي بأهل الأرض كما كان، واللمة التي اعتدناها اختفت، وكأن الهمة نفسها انقرضت من بين شبابنا، تاركة الحقول خاوية إلا من أيدي الغريب.
وأنا، ابن زليتن الذي طال غيابه، أظل أتساءل كل موسم: هل سنعود إلى حقولنا… أم نتركها تروي وحدها قصة الغياب؟
منصة الصباح الصباح، منصة إخبارية رقمية