باختصار
د. علي عاشور
عندما كنا صغاراً لم نعرف شيئاً اسمه علبة الفطور، ولا تلك الحقائب الصغيرة الملونة الممتلئة بالطعام والعصائر، فقد كانت الحياة بسيطة، نكتفي بقطعة خبز بزيت الزيتون فيها بيضة أو بعض الجبن أو قليل من التونة، وأياً كان فسوف يلف في كيس بلاستيكي صغير، وفي أغلب الأيام كان أكثرنا يذهب إلى المدرسة دون أن يجلب معه أي شيء، ومن شعر منا بالعطش فعليه أن يتجه إلى الحنفية الموجودة في حديقة المدرسة.
ومع ذلك، لم نشعر يوماً بنقص ولا تعب، فقد كانت فرحتنا بالمدرسة ورفقة الأصدقاء واللعب في ساحتها الخالية من الألعاب كفيلة بأن تمنحنا طاقة ليوم كامل، دون حاجة إلى ما تحمله حقائب اليوم من فطور مترف يفوق حاجة التلميذ.
ذلك الجيل تربى على القناعة، وتشرب معاني التكافل من البيوت البسيطة التي لم تفرق بين ابن الغني وابن الفقير، فقد كان معيار التفاضل وقتها هو الجد والاجتهاد والتميز الدراسي، وكان احترام المعلم وتقدير العلم هو رأس المال الاجتماعي، فلم نكن نسمع عن طفل تحسر أو غار من زميله الذي أخرج وجبة فطور فاخرة، بل كانت المشاركة عفوية، يعطى هذا بعض ما جاء به، ويقسم ذاك رغيفه معه، فيغدو الجميع متساوين في العطاء قبل أن يكونوا متساوين في الحاجة.
اليوم تغير المشهد كثيراً؛ صارت بعض المدارس تضطر لإصدار تعاميم تمنع مظاهر البذخ في الفطور، بعدما تحولت حقيبة الطعام إلى ساحة استعراض اجتماعي بين الأسر، لا إلى وسيلة لسد جوع الطفل.
لقد تغير الفطور ذاته حتى في اسمه؛ فما كان يسمى فطور المدرسة، صار اليوم يعرف (بالانش بوكس)، وكأننا استوردنا المصطلح قبل أن نراجع المعنى، تغير الاسم كما تغيرت الفكرة، فلم يعد الهدف أن يأكل الطفل ما يسد جوعه، بل أن يحمل معه ما يلفت النظر ويثير الإعجاب.
في اعتقادي، أن هذه الظاهرة تعكس خللاً في المنظومة القيمية داخل المجتمع الليبي، قبل أن تكون مجرد مسألة غذائية، فالمشكلة ليست في الحقيبة الصغيرة الممتلئة بالأكل والفاكهة والعصير، بل في فلسفة التربية التي جعلت الطفل يقارن نفسه بغيره من خلال ما يأكله، لا بما يتعلمه أو ينجزه.
المفارقة أن الماضي -رغم فقره- كان أكثر ثراءً في التربية الأخلاقية، واليوم رغم وفرة الإمكانات، صارت المقارنات تثقل نفسية وقلب الطفل وتزرع فيه بذور التفاخر أو الحسد.
إن المدرسة التي تنبه أولياء الأمور إلى هذه المسألة لا تتدخل في شؤونهم الخاصة، بل تحاول وقاية أبناءنا من قيم زائفة قد ترافقهم إلى المستقبل.
إننا بحاجة إلى وقفة مراجعة، كيف نصنع جيلاً يعتز بالعلم أكثر مما يعتز بفطوره المدرسي؟ وكيف نعلم أبناءنا أن الشبع الحقيقي لا يأتي من فطور فاخر بالفاكهة والعصائر، بل من روح ممتلئة بالقناعة والتواضع؟ هنا يكمن التحدي التربوي الذي ورثناه من البساطة، وفقدناه وسط مظاهر التكلف الحديثة التي نراها اليوم.